مقدمة
إنجيل مرقس 13 هو الفصل الثالث عشر من إنجيل مرقس في العهد الجديد من الكتاب المقدس المسيحي. يعتبر هذا الفصل جزءًا هامًا من تعاليم يسوع، حيث يتضمن نبوءات حول أحداث مستقبلية، بما في ذلك تدمير الهيكل في القدس، والضيقات العظيمة التي ستصيب أتباعه، ومجيئه الثاني. يُعرف هذا الفصل غالبًا باسم “خطاب الزيتونة” أو “نبوءة الزيتونة”، نسبة إلى المكان الذي ألقى فيه يسوع هذه التعاليم، وهو جبل الزيتون المطل على القدس.
السياق التاريخي والديني
يأتي إنجيل مرقس 13 في سياق زمني حرج في حياة يسوع، حيث يقترب من نهاية خدمته العلنية وبداية آلامه وموته وقيامته. بعد دخوله المنتصر إلى القدس، يقضي يسوع أيامه الأخيرة في التعليم والمناظرات مع القادة الدينيين. وفي هذا السياق، يقدم يسوع لتلاميذه نظرة مستقبلية للأحداث التي ستشكل مصيرهم ومصير أتباعه في المستقبل. من المهم فهم السياق التاريخي والديني لفهم النبوءات الواردة في هذا الفصل.
نبوءة تدمير الهيكل
يبدأ الفصل بنبوءة يسوع حول تدمير الهيكل في القدس. عندما كان يسوع وتلاميذه يغادرون الهيكل، أشار التلاميذ إلى عظمة المبنى وفخامته. فرد يسوع قائلاً: “أَتَنْظُرُونَ هذِهِ الأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لاَ يَبْقَى حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لاَ يُنْقَضُ” (مرقس 13: 2). هذه النبوءة كانت صادمة للتلاميذ، لأن الهيكل كان يمثل مركز الحياة الدينية والوطنية لليهود. تحقق هذا النبوءة بالفعل في عام 70 م، عندما دمر الرومان الهيكل بالكامل خلال حصارهم للقدس.
علامات نهاية الزمان
بعد النبوءة عن تدمير الهيكل، يسأل التلاميذ يسوع عن متى ستحدث هذه الأمور، وما هي العلامة التي تدل على قرب حدوثها. يجيب يسوع بتقديم سلسلة من العلامات التي ستسبق نهاية الزمان ومجيئه الثاني. تشمل هذه العلامات:
- ظهور مسحاء كذبة وأنبياء كذبة: “فَإِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ بِاسْمِي قَائِلِينَ: أَنَا هُوَ! وَيُضِلُّونَ كَثِيرِينَ” (مرقس 13: 6). يحذر يسوع من ظهور أشخاص يدعون أنهم المسيح أو أنبياء، ويضللون الناس بعلامات كاذبة.
- حروب وأخبار حروب: “وَمَتَى سَمِعْتُمْ بِحُرُوبٍ وَأَخْبَارِ حُرُوبٍ فَلاَ تَرْتَاعُوا، لأَنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ تَكُونَ، وَلكِنْ لَيْسَ الْمُنْتَهَى بَعْدُ” (مرقس 13: 7). يشير يسوع إلى أن الحروب والصراعات ستكون جزءًا من الحياة قبل نهاية الزمان، ولكنها ليست النهاية نفسها.
- زلازل ومجاعات: “لأَنَّهُ تَقُومُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ، وَمَمْلَكَةٌ عَلَى مَمْلَكَةٍ، وَتَكُونُ زَلاَزِلُ فِي أَمَاكِنَ، وَتَكُونُ مَجَاعَاتٌ وَاضْطِرَابَاتٌ. هذِهِ مُبْتَدَأُ الأَوْجَاعِ” (مرقس 13: 8). يذكر يسوع أن الزلازل والمجاعات ستكون من بين العلامات التي تشير إلى اقتراب نهاية الزمان.
- اضطهاد المؤمنين: “فَانْظُرُوا إِلَى نُفُوسِكُمْ. لأَنَّهُمْ سَيُسَلِّمُونَكُمْ إِلَى مَجَالِسَ وَتُجْلَدُونَ فِي الْمَجَامِعِ، وَتُوقَفُونَ أَمَامَ وُلاَةٍ وَمُلُوكٍ مِنْ أَجْلِي، شَهَادَةً لَهُمْ” (مرقس 13: 9). يحذر يسوع تلاميذه من أنهم سيواجهون اضطهادًا بسبب إيمانهم به، وسوف يُسلمون إلى المجالس ويُجلدون ويُوقفون أمام الولاة والملوك.
- الكرازة بالإنجيل في جميع الأمم: “وَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَزَ أَوَّلاً بِالإِنْجِيلِ فِي جَمِيعِ الأُمَمِ” (مرقس 13: 10). يشير يسوع إلى أن الكرازة بالإنجيل في جميع أنحاء العالم هي علامة أخرى تسبق نهاية الزمان.
الضيقة العظيمة
بعد ذكر العلامات العامة، ينتقل يسوع إلى وصف الضيقة العظيمة التي ستصيب المؤمنين في الأيام الأخيرة. يقول يسوع: “لأَنَّهُ يَكُونُ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ ضِيقٌ لَمْ يَكُنْ مِثْلُهُ مُنْذُ ابْتِدَاءِ الْخَلِيقَةِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ إِلَى الآنَ، وَلَنْ يَكُونَ” (مرقس 13: 19). يصف يسوع هذه الضيقة بأنها الأسوأ في التاريخ، وأنها ستشمل صعوبات وتحديات عظيمة للمؤمنين.
يحذر يسوع أتباعه من الأنبياء الكذبة والمعجزات الخادعة التي ستظهر في تلك الأيام: “سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ وَعَجَائِبَ لِيُضِلُّوا إِنْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا” (مرقس 13: 22). يحث يسوع المؤمنين على البقاء متيقظين وحذرين، وعدم الانخداع بالعلامات الكاذبة.
مجيء ابن الإنسان
بعد الضيقة العظيمة، يعد يسوع بمجيئه الثاني في مجد عظيم وقوة. يقول يسوع: “وَلكِنْ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ بَعْدَ تِلْكَ الضِّيقَةِ، تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لاَ يُعْطِي ضَوْءَهُ. وَنُجُومُ السَّمَاءِ تَتَسَاقَطُ، وَالْقُوَّاتُ الَّتِي فِي السَّمَاوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. وَحِينَئِذٍ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي السَّحَابِ بِقُوَّةٍ كَثِيرَةٍ وَمَجْدٍ” (مرقس 13: 24-26). يصف يسوع علامات كونية عظيمة ستسبق مجيئه، مثل ظلمة الشمس والقمر وتساقط النجوم. ثم يظهر ابن الإنسان (يسوع نفسه) في السحاب بقوة ومجد عظيمين.
يقول يسوع إنه سيرسل ملائكته ليجمعوا المختارين من كل أنحاء الأرض: “فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إِلَى أَقْصَى السَّمَاءِ” (مرقس 13: 27).
مثل شجرة التين
يستخدم يسوع مثل شجرة التين لتوضيح فكرة قرب مجيئه. يقول يسوع: “فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا الْمَثَلَ: مَتَى صَارَ غُصْنُهَا رَخْصًا وَأَخْرَجَتْ أَوْرَاقًا، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا، مَتَى رَأَيْتُمْ هذِهِ الأَشْيَاءَ صَائِرَةً، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ عَلَى الأَبْوَابِ” (مرقس 13: 28-29). يشبه يسوع العلامات التي ذكرها بأوراق شجرة التين التي تشير إلى قرب الصيف. عندما يرى المؤمنون هذه العلامات تحدث، يجب أن يعلموا أن مجيء يسوع قريب.
اليقظة والاستعداد
يختتم يسوع الفصل بالدعوة إلى اليقظة والاستعداد لمجيئه الثاني. يقول يسوع: “اُنْظُرُوا! اِسْهَرُوا وَصَلُّوا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَكُونُ الْوَقْتُ” (مرقس 13: 33). يحث يسوع أتباعه على البقاء متيقظين روحيًا، وأن يصلوا باستمرار لكي يكونوا مستعدين لمجيئه في أي لحظة. يشبه يسوع الأمر برجل مسافر ترك بيته وأعطى سلطانه لعبيده، وأمر البواب أن يسهر. يجب على المؤمنين أن يكونوا مثل البواب الساهر، وأن يكونوا مستعدين لمجيء سيدهم في أي وقت.
يكرر يسوع التأكيد على أهمية السهر واليقظة: “اِسْهَرُوا إِذًا، لأَنَّكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَتَى يَأْتِي رَبُّ الْبَيْتِ: أَمَسَاءً، أَمْ نِصْفَ اللَّيْلِ، أَمْ صِيَاحَ الدِّيكِ، أَمْ صَبَاحًا. لِئَلاَّ يَأْتِيَ بَغْتَةً فَيَجِدَكُمْ نِيَامًا. وَمَا أَقُولُهُ لَكُمْ أَقُولُهُ لِلْجَمِيعِ: اِسْهَرُوا!” (مرقس 13: 35-37).
تفسيرات لاهوتية
هناك تفسيرات لاهوتية مختلفة لإنجيل مرقس 13. بعض اللاهوتيين يعتقدون أن النبوءات الواردة في هذا الفصل قد تحققت بالفعل في تدمير الهيكل في عام 70 م، وأن يسوع كان يتحدث عن أحداث معاصرة له. ويرى آخرون أن النبوءات لها بعدان: بعد تاريخي يتعلق بتدمير الهيكل، وبعد مستقبلي يتعلق بنهاية الزمان ومجيء يسوع الثاني. هناك أيضًا تفسيرات تركز على الجانب الروحي للنبوءات، وترى أنها تحث المؤمنين على الاستعداد الروحي واليقظة في كل الأوقات.
أهمية الفصل للمؤمنين
إنجيل مرقس 13 له أهمية كبيرة للمؤمنين المسيحيين. إنه يقدم لهم نظرة مستقبلية للأحداث التي ستشكل العالم، ويحثهم على البقاء متيقظين ومستعدين لمجيء يسوع الثاني. كما أنه يشجعهم على الثبات في الإيمان وسط الضيقات والتحديات، وعلى الكرازة بالإنجيل في جميع أنحاء العالم. يدعو الفصل المؤمنين إلى التفكير في الأولويات الحقيقية في حياتهم، وإلى الاستعداد للقاء الرب.
خاتمة
إنجيل مرقس 13 هو فصل هام في إنجيل مرقس، حيث يتضمن نبوءات يسوع حول تدمير الهيكل وعلامات نهاية الزمان والضيقة العظيمة ومجيئه الثاني. يحث الفصل المؤمنين على اليقظة والاستعداد الروحي، وعلى الثبات في الإيمان وسط الضيقات، وعلى الكرازة بالإنجيل في جميع أنحاء العالم. يقدم الفصل نظرة مستقبلية للأحداث التي ستشكل العالم، ويدعو المؤمنين إلى التفكير في الأولويات الحقيقية في حياتهم والاستعداد للقاء الرب.