مقدمة
يوسف ما دكسين (بالصينية: 马德新; بينيين: Mǎ Déxīn)، المعروف أيضًا باسم ما تيسينغ (Ma Tesing)، (1794-1874) كان عالمًا صينيًا مسلمًا من عرقية هوي، ينتمي إلى المذهب الحنفي والمدرسة الماتريدية، من مقاطعة يونان. اشتهر ببلاغته ومعرفته الواسعة بالإسلام، وساهم بشكل كبير في الحفاظ على الهوية الإسلامية وتعزيز التعليم الديني في الصين خلال فترة مضطربة.
نشأته وتعليمه
ولد يوسف ما دكسين في أسرة مسلمة متدينة في يونان، وهي منطقة تتميز بتاريخ طويل من الوجود الإسلامي. تلقى تعليمه الأولي في المدارس المحلية، حيث درس اللغة العربية والفقه الإسلامي والعلوم الدينية الأخرى. أظهر نبوغًا مبكرًا في اللغات والعلوم، مما شجعه على مواصلة تعليمه العالي.
سافر ما دكسين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة في شبابه، حيث مكث لسنوات عديدة يدرس على يد كبار العلماء والفقهاء في الحرمين الشريفين. اكتسب خلال هذه الفترة معرفة واسعة بالشريعة الإسلامية والتفسير والحديث، بالإضافة إلى إتقانه للغة العربية وآدابها. كما اطلع على مختلف المذاهب الفقهية والمدارس الكلامية، مما ساهم في تكوين رؤية شاملة للإسلام.
بعد عودته إلى الصين، كرس ما دكسين نفسه للتعليم ونشر المعرفة الإسلامية. أنشأ العديد من المدارس والمكتبات في يونان وغيرها من المناطق، حيث قام بتدريس الطلاب وتزويدهم بالكتب والمراجع اللازمة. كما قام بتأليف وترجمة العديد من الكتب والمقالات في مختلف فروع العلوم الإسلامية، مما ساهم في إثراء المكتبة الإسلامية الصينية.
دوره في المجتمع الإسلامي الصيني
لعب يوسف ما دكسين دورًا بارزًا في توحيد وتقوية المجتمع الإسلامي في الصين. عمل على تعزيز التفاهم والتعاون بين مختلف الجماعات الإسلامية، وحثهم على التمسك بتعاليم الإسلام السمحة والابتعاد عن التعصب والتطرف. كما دافع عن حقوق المسلمين وحمايتهم من الاضطهاد والتمييز، وساهم في حل النزاعات والمشاكل التي كانت تواجههم.
تميز ما دكسين بعلاقاته القوية مع السلطات الحكومية، حيث كان يحظى بتقدير واحترام المسؤولين والعلماء. استغل هذه العلاقات في خدمة مصالح المسلمين والدفاع عن حقوقهم، كما ساهم في تعزيز التفاهم والتعايش بين المسلمين وغير المسلمين في الصين.
خلال فترة حكم أسرة تشينغ، واجه المسلمون في الصين العديد من التحديات والصعوبات، بما في ذلك الاضطهاد الديني والتمييز الاجتماعي. قاد يوسف ما دكسين جهودًا حثيثة للدفاع عن حقوق المسلمين وحمايتهم من الظلم، وعمل على تعزيز التسامح والتعايش بين مختلف الأديان والثقافات.
مؤلفاته وإسهاماته العلمية
ترك يوسف ما دكسين إرثًا علميًا غنيًا ومتنوعًا، يتمثل في العديد من الكتب والمقالات التي ألفها وترجمها في مختلف فروع العلوم الإسلامية. من أبرز مؤلفاته:
- “تفسير القرآن الكريم”: يعتبر هذا التفسير من أهم التفاسير القرآنية التي كتبت باللغة الصينية، ويتميز بأسلوبه الواضح والمبسط وشرحه المفصل للمعاني والمفاهيم القرآنية.
- “شرح الأربعين النووية”: شرح مفصل للأربعين حديثًا النووية، مع التركيز على المعاني الفقهية والأخلاقية للحديث.
- “مختصر القدوري في الفقه الحنفي”: تلخيص لكتاب القدوري في الفقه الحنفي، مع إضافة بعض الشروح والتعليقات.
- “تاريخ الإسلام في الصين”: دراسة تاريخية شاملة لتاريخ الإسلام في الصين، منذ وصوله إلى البلاد وحتى عصره.
بالإضافة إلى هذه المؤلفات، قام يوسف ما دكسين بترجمة العديد من الكتب والمقالات العربية والفارسية إلى اللغة الصينية، مما ساهم في إثراء المكتبة الإسلامية الصينية وتعريف المسلمين الصينيين بالثقافة الإسلامية العالمية.
وفاته وإرثه
توفي يوسف ما دكسين عام 1874 عن عمر يناهز الثمانين عامًا، بعد حياة حافلة بالعلم والعمل والإنجاز. ترك وراءه إرثًا عظيمًا من المعرفة والعلم، بالإضافة إلى سمعة طيبة ومكانة مرموقة في قلوب المسلمين الصينيين.
لا يزال يوسف ما دكسين يُذكر حتى اليوم كواحد من أبرز العلماء والمفكرين المسلمين في تاريخ الصين. تعتبر مؤلفاته وأعماله مرجعًا هامًا للباحثين والدارسين في العلوم الإسلامية، كما أن حياته وسيرته تمثلان نموذجًا يحتذى به في الإخلاص والتفاني في خدمة الإسلام والمسلمين.
لقد ساهم يوسف ما دكسين بشكل كبير في الحفاظ على الهوية الإسلامية وتعزيز التعليم الديني في الصين خلال فترة مضطربة من تاريخ البلاد. بفضل جهوده، تمكن المسلمون الصينيون من الحفاظ على دينهم وثقافتهم، والمساهمة في بناء مجتمع مزدهر ومتسامح.
موقفه من ثورة دالي
خلال ثورة دالي (1856-1873)، وهي انتفاضة قادها المسلمون الهوي في يونان ضد حكم أسرة تشينغ، كان موقف يوسف ما دكسين معقداً. في البداية، حاول الحفاظ على الحياد ودعا إلى السلام، لكن مع تصاعد العنف وتدهور الأوضاع الإنسانية، انخرط بشكل أكبر في الأحداث.
تشير بعض المصادر إلى أنه دعم الثورة في البداية بهدف حماية المسلمين من الاضطهاد، لكنه سرعان ما أدرك مخاطر الفتنة والدمار الذي قد يترتب عليها. سعى إلى التوسط بين الثوار وحكومة تشينغ للوصول إلى حل سلمي، لكن جهوده لم تنجح.
بعد سقوط دالي في يد قوات تشينغ، تم القبض على يوسف ما دكسين وإعدامه بتهمة التآمر مع الثوار. يعتبره البعض شهيدًا ضحى بحياته من أجل حماية المسلمين، بينما يرى آخرون أنه ارتكب خطأً بالانخراط في السياسة ودعم الثورة.
بغض النظر عن موقفه من ثورة دالي، لا يمكن إنكار الدور الكبير الذي لعبه يوسف ما دكسين في خدمة الإسلام والمسلمين في الصين. يبقى إرثه العلمي والفكري مصدر إلهام للأجيال القادمة من المسلمين الصينيين.
خاتمة
يوسف ما دكسين، العالم والفقيه والمصلح، شخصية بارزة في تاريخ الإسلام في الصين. ترك بصمة واضحة في مجتمعه من خلال تعليمه وتأليفه وترجمته. سعى لتوحيد المسلمين والدفاع عن حقوقهم، وساهم في نشر المعرفة الإسلامية. على الرغم من الجدل حول موقفه من ثورة دالي، إلا أن إرثه العلمي والإنساني يبقى محط تقدير واحترام.