<![CDATA[
مقدمة
يشير مصطلح “العمل الحدودي” (Boundary-work) في دراسات العلوم إلى الحالات التي يتم فيها ترسيم الحدود أو الفواصل أو التقسيمات بين مجالات المعرفة المختلفة. يهدف هذا المفهوم إلى فهم كيف يقوم الأفراد والجماعات بتحديد وتمييز مجالات خبرتهم وممارساتهم عن غيرها، وكيف يتم التفاوض على هذه الحدود وتحديها وإعادة تشكيلها بمرور الوقت. يعتبر العمل الحدودي عملية اجتماعية ومعرفية مهمة تؤثر على كيفية تنظيم المعرفة وإنتاجها وتوزيعها.
أصول المفهوم وتطوره
تم تقديم مفهوم العمل الحدودي لأول مرة من قبل توماس جيرييرد في كتابه “العمل الحدودي: تحديد العلوم عن طريق استبعاد الزائفية” (Boundary-Work: The Social Construction of the Distinction Between Science and Pseudoscience) عام 1983. استكشف جيرييرد كيف يستخدم العلماء استراتيجيات خطابية وعملية لتمييز العلوم عن العلوم الزائفة، وكيف أن هذا التمييز ليس موضوعيًا بالكامل ولكنه يتأثر بالعوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية. منذ ذلك الحين، تم توسيع نطاق مفهوم العمل الحدودي وتطبيقه على مجموعة واسعة من السياقات، بما في ذلك العلاقات بين التخصصات الأكاديمية، والحدود بين العلم والتكنولوجيا، والتمييز بين المعرفة الخبيرة والمعرفة العامة.
أهمية العمل الحدودي
يكمن جوهر أهمية العمل الحدودي في فهم كيفية تشكيل المعرفة وتحديدها من خلال التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية. فهو يسلط الضوء على أن الحدود بين المجالات المعرفية ليست ثابتة أو طبيعية، بل يتم بناؤها والحفاظ عليها من خلال عمليات نشطة. يساعدنا العمل الحدودي على فهم:
- ديناميكيات السلطة: كيف يتم استخدام الحدود لتأكيد السلطة والنفوذ من قبل بعض المجموعات على حساب مجموعات أخرى.
- التغيير المعرفي: كيف يمكن أن يؤدي تحدي الحدود القائمة إلى ظهور مجالات معرفية جديدة ومبتكرة.
- التعاون والتكامل: كيف يمكن أن يؤدي فهم العمل الحدودي إلى تعزيز التعاون والتكامل بين التخصصات والمجالات المختلفة.
- الشرعية والمصداقية: كيف يتم استخدام الحدود لتحديد ما يعتبر معرفة “حقيقية” أو “موثوقة” وما لا يعتبر كذلك.
استراتيجيات العمل الحدودي
يستخدم الأفراد والجماعات مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لترسيم الحدود بين المجالات المعرفية. تشمل هذه الاستراتيجيات:
- التعريف: تحديد المفاهيم والأساليب والأهداف التي تميز مجالًا معرفيًا معينًا عن غيره.
- التصنيف: تصنيف الظواهر والمواضيع والمشكلات ضمن فئات محددة مرتبطة بمجال معرفي معين.
- التقييم: تقييم المعرفة والممارسات الخاصة بمجال معرفي معين وفقًا لمعايير محددة.
- التفاوض: التفاوض على الحدود بين المجالات المعرفية المختلفة من خلال الحوار والجدال والتسوية.
- الاستبعاد: استبعاد بعض الأفراد أو الجماعات أو المعارف من مجال معرفي معين.
- الاحتواء: احتواء بعض الأفراد أو الجماعات أو المعارف ضمن مجال معرفي معين.
أمثلة على العمل الحدودي
يمكن العثور على أمثلة على العمل الحدودي في مجموعة واسعة من السياقات. فيما يلي بعض الأمثلة:
- التمييز بين العلوم والعلوم الزائفة: كما أشار جيرييرد، يعتبر التمييز بين العلوم والعلوم الزائفة مثالًا كلاسيكيًا على العمل الحدودي. يستخدم العلماء استراتيجيات مختلفة لتمييز أبحاثهم عن الادعاءات التي يعتبرونها غير علمية أو مضللة.
- الحدود بين التخصصات الأكاديمية: غالبًا ما تتنافس التخصصات الأكاديمية على الموارد والاعتراف. يستخدم أعضاء كل تخصص استراتيجيات مختلفة لتعزيز مكانتهم وتأكيد أهمية مجالهم. على سبيل المثال، قد يجادل علماء الاجتماع بأن أساليبهم أكثر ملاءمة لدراسة بعض الظواهر الاجتماعية من أساليب علماء النفس، أو العكس.
- الحدود بين العلم والتكنولوجيا: غالبًا ما يكون التمييز بين العلم والتكنولوجيا غامضًا. قد يجادل العلماء بأنهم يجرون أبحاثًا أساسية تهدف إلى توسيع المعرفة، في حين أن المهندسين يركزون على تطبيق هذه المعرفة لحل المشكلات العملية. ومع ذلك، غالبًا ما يكون هناك تداخل كبير بين العلم والتكنولوجيا، وقد يكون من الصعب تحديد أين ينتهي أحدهما ويبدأ الآخر.
- الحدود بين المعرفة الخبيرة والمعرفة العامة: غالبًا ما يمتلك الخبراء معرفة متخصصة لا يمتلكها عامة الناس. يستخدم الخبراء استراتيجيات مختلفة للحفاظ على سلطتهم ومعرفتهم، مثل استخدام المصطلحات التقنية والتأكيد على أهمية التدريب والشهادات. ومع ذلك، يمكن أن تتحدى المعرفة العامة أيضًا سلطة الخبراء، خاصة عندما تكون هناك خلافات حول القضايا العلمية أو التقنية.
- الحدود بين الطب البديل والطب التقليدي: يمثل التمييز بين الطب البديل والطب التقليدي مثالاً معقداً للعمل الحدودي، حيث تسعى كلتا المجموعتين إلى إضفاء الشرعية على ممارساتها. يحاول ممارسو الطب التقليدي في كثير من الأحيان استبعاد العلاجات البديلة باعتبارها غير علمية وغير فعالة، بينما يؤكد ممارسو الطب البديل على الفوائد المحتملة لعلاجاتهم ويدعون إلى اتباع نهج أكثر شمولية للرعاية الصحية.
تطبيقات العمل الحدودي
يمكن تطبيق مفهوم العمل الحدودي على مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك:
- دراسات العلوم والتكنولوجيا: فهم كيفية تشكيل المعرفة العلمية والتكنولوجية من خلال العمليات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
- إدارة المعرفة: تحسين عملية تنظيم المعرفة وتوزيعها داخل المؤسسات والمنظمات.
- الابتكار: تعزيز الابتكار من خلال تسهيل التعاون والتكامل بين التخصصات والمجالات المختلفة.
- السياسة العلمية: اتخاذ قرارات مستنيرة بشأن تمويل البحوث وتنظيم العلوم والتكنولوجيا.
- التواصل العلمي: تحسين التواصل بين العلماء وعامة الناس من خلال فهم كيفية بناء الحدود بين المعرفة الخبيرة والمعرفة العامة.
- التعليم: تصميم مناهج تعليمية تعزز التفكير النقدي والوعي بالحدود بين التخصصات والمجالات المختلفة.
نقد العمل الحدودي
على الرغم من أن العمل الحدودي يوفر رؤى قيمة حول كيفية تشكيل المعرفة، إلا أنه تعرض أيضًا لبعض الانتقادات. تشمل بعض هذه الانتقادات:
- التركيز المفرط على البناء الاجتماعي: يجادل البعض بأن العمل الحدودي يركز بشكل كبير على العوامل الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تشكل المعرفة، ويتجاهل دور العوامل الموضوعية والتجريبية.
- الاختزالية: يجادل البعض بأن العمل الحدودي يختزل المعرفة إلى مجرد نتاج عمليات اجتماعية، ويتجاهل أهمية المحتوى الفعلي للمعرفة.
- النسبية: يجادل البعض بأن العمل الحدودي يؤدي إلى النسبية المعرفية، حيث لا يوجد معيار موضوعي لتقييم المعرفة.
- التحيز: يجادل البعض بأن العمل الحدودي يمكن أن يكون متحيزًا تجاه مجموعات أو وجهات نظر معينة.
على الرغم من هذه الانتقادات، يظل العمل الحدودي مفهومًا مهمًا ومفيدًا في دراسات العلوم والتكنولوجيا وغيرها من المجالات. من خلال فهم كيفية بناء الحدود بين المجالات المعرفية والحفاظ عليها، يمكننا الحصول على رؤى أعمق حول طبيعة المعرفة وكيفية تنظيمها وإنتاجها وتوزيعها.
خاتمة
العمل الحدودي هو مفهوم حاسم في فهم كيفية تشكيل المعرفة وتنظيمها. من خلال دراسة العمليات التي يتم من خلالها ترسيم الحدود بين مجالات المعرفة المختلفة، يمكننا الكشف عن الديناميكيات الاجتماعية والسياسية التي تؤثر على إنتاج المعرفة وتوزيعها. يوفر العمل الحدودي أدوات تحليلية قيمة لفهم التمييز بين العلوم والعلوم الزائفة، والحدود بين التخصصات الأكاديمية، والعلاقة بين المعرفة الخبيرة والمعرفة العامة. على الرغم من بعض الانتقادات، يظل العمل الحدودي أداة قوية لفهم طبيعة المعرفة ودورها في المجتمع.
المراجع
- Gieryn, T. F. (1983). Boundary-Work and the Demarcation of Science from Non-Science: Strains and Interests in Professional Ideologies of Scientists. American Sociological Review, 48(6), 781-795.
- Star, S. L., & Griesemer, J. R. (1989). Institutional Ecology, ‘Translations’ and Boundary Objects: Amateurs and Professionals in Berkeley’s Museum of Vertebrate Zoology, 1907-39. Social Studies of Science, 19(3), 387-420.
- Lamont, M., & Molnár, V. (2002). The Study of Boundaries in the Social Sciences. Annual Review of Sociology, 28(1), 167-195.
- Deflem, M. (2021). Boundary-Work. In: George Ritzer and Chris Rojek (eds.). Encyclopedia of Sociology.