حياته
مكاريوس الأول الأنطاكي، بطريرك أنطاكية في القرن السابع، شخصية محورية في تاريخ الكنيسة الشرقية، خاصة خلال فترة الاضطرابات اللاهوتية العميقة التي شهدتها الإمبراطورية البيزنطية. تولى منصبه في فترة حرجة، حيث كانت الخلافات حول طبيعة المسيح تتصاعد، مما أدى إلى انقسامات داخل الكنيسة وخارجها. حياة مكاريوس مليئة بالتحديات، حيث واجه ضغوطًا سياسية ودينية كبيرة، وأجبر على اتخاذ مواقف أثارت جدلاً واسعًا.
ولد مكاريوس في منطقة أنطاكية، التي كانت في ذلك الوقت مركزًا ثقافيًا ودينيًا حيويًا. لا تتوفر معلومات تفصيلية عن سنواته الأولى وتعليمه، ولكن من المؤكد أنه تلقى تدريبًا لاهوتيًا مكثفًا أهّله لتولي منصب بطريرك أنطاكية. قبل أن يصبح بطريركًا، شغل مناصب كنسية مهمة، مما أكسبه خبرة في إدارة الشؤون الكنسية والتعامل مع القضايا اللاهوتية المعقدة.
في عام 664، انتخب مكاريوس بطريركًا لأنطاكية، وهي واحدة من الكراسي الرسولية القديمة والمهمة في الكنيسة. جاء انتخابه في فترة كانت فيها الإمبراطورية البيزنطية تحاول جاهدة الحفاظ على وحدتها الدينية والسياسية. كانت مسألة المشيئة الواحدة (Monothelitism) تثير جدلاً واسعًا، حيث كانت تحاول التوفيق بين العقيدة الخلقيدونية (Chalcedonian) التي تؤكد وجود طبيعتين في المسيح (إلهية وإنسانية) والعقيدة الميافيزية (Miaphysitism) التي تؤكد على طبيعة واحدة متجسدة.
تبنى مكاريوس موقفًا مؤيدًا للمشيئة الواحدة، وهو ما جعله في خلاف مع العديد من اللاهوتيين البارزين في الإمبراطورية، بمن فيهم البابا أغاثون (Pope Agatho) في روما. كان الإمبراطور البيزنطي قسطنطين الرابع (Constantine IV) يسعى إلى حل هذه الخلافات من خلال عقد مجمع مسكوني، وهو ما تم بالفعل في عام 680-681 في القسطنطينية. عُرف هذا المجمع بالمجمع المسكوني السادس.
خلال المجمع، دافع مكاريوس بقوة عن موقفه المؤيد للمشيئة الواحدة، ولكنه واجه معارضة شديدة من غالبية الأساقفة المشاركين، الذين أدانوا المشيئة الواحدة وأكدوا على وجود مشيئتين في المسيح، متوافقتين وغير متعارضتين. نتيجة لذلك، تم عزل مكاريوس من منصبه كبطريرك لأنطاكية في عام 681، واعتبر هرطوقيًا من قبل الكنيسة الجامعة.
بعد عزله، نُفي مكاريوس إلى روما، حيث بقي حتى وفاته. لا تتوفر معلومات دقيقة عن تفاصيل حياته بعد العزل، ولكن من المؤكد أنه ظل متمسكًا بمواقفه اللاهوتية حتى النهاية. يظل مكاريوس شخصية مثيرة للجدل في تاريخ الكنيسة، حيث يرى البعض فيه مدافعًا عن الحق، بينما يعتبره آخرون مبتدعًا ضل عن الطريق الصحيح.
لقبه
كان مكاريوس الأول يحمل لقب بطريرك أنطاكية، وهو منصب ديني رفيع المستوى في الكنيسة الشرقية. يعتبر بطريرك أنطاكية خليفة للرسول بطرس، ويتمتع بسلطة روحية وإدارية كبيرة على الكنائس والأبرشيات التابعة لكرسيه. خلال فترة ولايته، سعى مكاريوس إلى الحفاظ على وحدة الكنيسة والدفاع عن العقيدة الأرثوذكسية، ولكنه اصطدم بالخلافات اللاهوتية التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
من المهم الإشارة إلى أن لقب “بطريرك أنطاكية” يحمل دلالات تاريخية وثقافية عميقة. أنطاكية كانت مدينة مهمة في العصر الروماني والبيزنطي، وكانت مركزًا للنشاط التبشيري المسيحي في القرون الأولى. تأسست فيها كنيسة أنطاكية، التي تعتبر واحدة من أقدم الكنائس المسيحية في العالم. لذلك، فإن منصب بطريرك أنطاكية يحمل مكانة خاصة في الكنيسة الشرقية، ويعكس تاريخًا طويلًا من الإيمان والتقاليد.
على الرغم من أن مكاريوس عُزل من منصبه بسبب مواقفه اللاهوتية، إلا أنه يظل جزءًا من سلسلة البطاركة الذين تولوا هذا المنصب الرفيع. تاريخه يعكس التحديات التي واجهتها الكنيسة في الحفاظ على وحدتها العقائدية خلال فترات الاضطرابات والتحولات. لقب “بطريرك أنطاكية” يذّكرنا بأهمية هذا الكرسي الرسولي في تاريخ المسيحية، ودوره في نشر الإنجيل والحفاظ على التقاليد الكنسية.
تعتبر فترة ولاية مكاريوس الأنطاكي مثالًا على مدى تعقيد الخلافات اللاهوتية وتأثيرها على مسار الكنيسة. موقفه المؤيد للمشيئة الواحدة أدى إلى عزله وإدانته، ولكنه يظل شخصية تستحق الدراسة والتحليل لفهم أعمق لتاريخ الكنيسة الشرقية والصراعات التي شهدتها في القرون الأولى.
خاتمة
مكاريوس الأول الأنطاكي، بطريرك أنطاكية في القرن السابع، يمثل شخصية محورية في تاريخ الكنيسة الشرقية، خاصة فيما يتعلق بالجدل حول المشيئة الواحدة. تولى منصبه في فترة حرجة، حيث كانت الخلافات اللاهوتية تهدد وحدة الكنيسة والإمبراطورية البيزنطية. على الرغم من جهوده للدفاع عن موقفه، تم عزله وإدانته في المجمع المسكوني السادس. يظل مكاريوس شخصية مثيرة للجدل، تجسد التحديات التي واجهت الكنيسة في الحفاظ على وحدتها العقائدية خلال فترات الاضطرابات والتحولات.