مقدمة
في تصنيف علم آثار الأمريكتين، تُستخدم عبارة “مرحلة ما بعد الكلاسيكية” للإشارة إلى بعض ثقافات ما قبل كولومبوس. تمثل هذه المرحلة فترة زمنية محددة تتميز بتطورات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية معينة، وتأتي بعد المرحلة الكلاسيكية. من المهم ملاحظة أن هذا التصنيف لا ينطبق بالضرورة على جميع مناطق الأمريكتين بنفس الطريقة أو في نفس الوقت، حيث أن التطورات التاريخية كانت متباينة بين الثقافات المختلفة.
تعريف المرحلة ما بعد الكلاسيكية
تُعرف المرحلة ما بعد الكلاسيكية بشكل عام بأنها الفترة التي تلت انهيار المراكز الحضرية الكبرى في المرحلة الكلاسيكية، مثل مدن المايا في الأراضي المنخفضة. تتميز هذه المرحلة بالعديد من السمات، بما في ذلك:
- التحولات السياسية: انتقال السلطة من المدن الكبرى إلى كيانات سياسية أصغر وأكثر لامركزية.
- الحروب والصراعات: زيادة في حدة الصراعات العسكرية بين الدول المدن والمجموعات المختلفة.
- التغيرات الاجتماعية: ظهور طبقات اجتماعية جديدة وتغير في هياكل السلطة التقليدية.
- التطورات الاقتصادية: تحولات في أنماط التجارة والإنتاج، بما في ذلك زيادة الاعتماد على الزراعة المكثفة والتخصص الحرفي.
- التأثيرات الثقافية: انتشار أفكار وتقاليد جديدة، وأحياناً اندماج ثقافات مختلفة.
الخصائص الرئيسية للمرحلة ما بعد الكلاسيكية
تتضمن بعض الخصائص الرئيسية التي تحدد المرحلة ما بعد الكلاسيكية ما يلي:
- اللامركزية السياسية: تراجع قوة المدن الكبرى وظهور دول مدن أصغر وأكثر استقلالية. هذا أدى إلى نظام سياسي أكثر تنافسية وتقلبًا.
- العسكرة: زيادة أهمية الجيش والحرب في الحياة السياسية والاجتماعية. غالبًا ما تم بناء المدن في مواقع دفاعية وتم تحصينها بشكل كبير.
- التجارة والتوسع: سعت العديد من الدول المدن إلى توسيع نفوذها من خلال التجارة والغزو العسكري، مما أدى إلى انتشار ثقافي وتجاري واسع النطاق.
- التغيرات الدينية: تطورت المعتقدات والممارسات الدينية، وأحيانًا تم دمجها مع معتقدات وتقاليد جديدة.
- الفن والعمارة: استمر تطور الفن والعمارة، ولكن غالبًا ما تميزت بأساليب جديدة وتقنيات مبتكرة.
أمثلة على ثقافات المرحلة ما بعد الكلاسيكية
هناك العديد من الثقافات التي ازدهرت خلال المرحلة ما بعد الكلاسيكية في الأمريكتين. بعض الأمثلة البارزة تشمل:
- المايا في يوكاتان: بعد انهيار المدن الكلاسيكية في الأراضي المنخفضة، استمرت حضارة المايا في الازدهار في شبه جزيرة يوكاتان، مع ظهور مدن مثل تشيتشن إيتزا ومايان. تميزت هذه الفترة باندماج ثقافي مع مجموعات أخرى من وسط المكسيك.
- الأزتيك: ظهر الأزتيك في وادي المكسيك في القرن الرابع عشر الميلادي، وسرعان ما أسسوا إمبراطورية قوية سيطرت على جزء كبير من وسط المكسيك. اشتهر الأزتيك بتنظيمهم العسكري القوي ونظامهم السياسي المعقد ومعتقداتهم الدينية المعقدة.
- الإنكا: ظهرت حضارة الإنكا في جبال الأنديز في القرن الخامس عشر الميلادي، وسرعان ما أسسوا إمبراطورية واسعة امتدت على طول ساحل المحيط الهادئ في أمريكا الجنوبية. اشتهر الإنكا بتنظيمهم الإداري الفعال وهندستهم المعمارية المذهلة ونظامهم الزراعي المتقدم.
- شعوب الميسيسيبي: ازدهرت ثقافات شعوب الميسيسيبي في وادي نهر الميسيسيبي في أمريكا الشمالية خلال الفترة ما بعد الكلاسيكية. اشتهرت هذه الثقافات ببناء تلال ترابية كبيرة واستخدام الزراعة المكثفة والتنظيم الاجتماعي المعقد.
المايا في يوكاتان خلال المرحلة ما بعد الكلاسيكية
بعد انهيار المراكز الكلاسيكية، شهدت حضارة المايا تحولاً كبيراً. انتقلت مراكز القوة إلى الشمال، نحو شبه جزيرة يوكاتان. ظهرت مدن جديدة مثل تشيتشن إيتزا ومايان، التي جمعت بين عناصر المايا التقليدية وتأثيرات من وسط المكسيك. اتسمت هذه الفترة بالحروب المستمرة بين المدن المتنافسة والتجارة المكثفة.
تشيتشن إيتزا، على وجه الخصوص، أصبحت مركزًا ثقافيًا وسياسيًا رئيسيًا. يظهر تأثير ثقافات وسط المكسيك بوضوح في هندستها المعمارية، مثل معبد كوكولكان (El Castillo). ومع ذلك، لم تنجح أي من هذه المدن في توحيد شبه جزيرة يوكاتان بالكامل، وظلت المنطقة مجزأة إلى دول مدن متنافسة حتى وصول الإسبان.
الأزتيك وتأسيس إمبراطورية
الأزتيك، المعروفون أيضًا باسم المكسيكيين، كانوا شعبًا ناهواتلًا هاجروا إلى وادي المكسيك في القرن الثالث عشر. وفقًا للأسطورة، تلقوا إشارة من إلههم، ويتزيلوبوتشتلي، لبناء مدينتهم في المكان الذي يرون فيه نسرًا يأكل ثعبانًا على صبار. في عام 1325، أسسوا تينوتشتيتلان على جزيرة في بحيرة تيكسكوكو، والتي أصبحت فيما بعد عاصمة إمبراطوريتهم.
من خلال التحالفات العسكرية والسياسية، تمكن الأزتيك من السيطرة على جزء كبير من وسط المكسيك. كان نظامهم يعتمد على الجزية، حيث كانت المدن والقبائل المهزومة تدفع الضرائب إلى تينوتشتيتلان. كان المجتمع الأزتيكي هرميًا، مع وجود طبقة نبيلة حاكمة وطبقة من المحاربين والكهنة وطبقة من التجار والحرفيين وطبقة من العبيد.
كان الدين يلعب دورًا مركزيًا في حياة الأزتيك. كانوا يعبدون مجموعة كبيرة من الآلهة، وكانوا يؤمنون بالتضحيات البشرية لإرضاء الآلهة والحفاظ على الكون. اشتهر الأزتيك أيضًا بفنهم وهندستهم المعمارية، وخاصة معبد تيمبلو مايور في تينوتشتيتلان.
الإنكا وتوسع إمبراطوريتهم
ظهرت حضارة الإنكا في منطقة كوسكو في جبال الأنديز في القرن الخامس عشر. وفقًا للأسطورة، أسس مانكو كاباك وزوجته ماما أوكلو مملكة كوسكو بأمر من إله الشمس، إنتي. من خلال سلسلة من الفتوحات العسكرية والتحالفات السياسية، تمكن الإنكا من توسيع نفوذهم بسرعة.
تحت قيادة قادة مثل باتشاكوتيك يوبانكي وتوباك يوبانكي، أسس الإنكا إمبراطورية واسعة امتدت من الإكوادور إلى تشيلي والأرجنتين الحالية. كانت الإمبراطورية مقسمة إلى أربعة أجزاء رئيسية، تُعرف باسم “الأرباع الأربعة” (Tawantinsuyu). تميزت الإمبراطورية بتنظيم إداري مركزي قوي، مع وجود بيروقراطية واسعة تدير الموارد وتفرض الضرائب وتنفذ القوانين.
اشتهر الإنكا بهندستهم المعمارية المذهلة، وخاصة مدينة ماتشو بيتشو. قاموا ببناء شبكة واسعة من الطرق والجسور لتسهيل الاتصالات والتجارة عبر الإمبراطورية. كان نظامهم الزراعي متقدمًا، مع استخدام المدرجات والقنوات لزراعة المحاصيل في التضاريس الجبلية الوعرة.
شعوب الميسيسيبي وثقافتهم
ازدهرت ثقافات شعوب الميسيسيبي في وادي نهر الميسيسيبي في أمريكا الشمالية خلال الفترة ما بعد الكلاسيكية، تقريبًا من عام 800 م إلى 1600 م. اشتهرت هذه الثقافات ببناء تلال ترابية كبيرة، والتي كانت تستخدم كقواعد للمعابد والمساكن والمباني العامة الأخرى.
كانت كاهوكيا، الواقعة بالقرب من كولينزفيل بولاية إلينوي الحالية، أكبر مركز حضري لشعوب الميسيسيبي. في أوجها، ربما كان عدد سكان كاهوكيا يتراوح بين 10000 و 20000 نسمة. كانت المدينة مركزًا تجاريًا ودينيًا رئيسيًا، وتضم العديد من التلال الكبيرة، بما في ذلك تل الراهب (Monk’s Mound)، وهو أكبر هيكل ترابي في أمريكا الشمالية.
كانت الزراعة تلعب دورًا مهمًا في حياة شعوب الميسيسيبي. قاموا بزراعة الذرة والفاصوليا والكوسا، بالإضافة إلى محاصيل أخرى. كان لديهم أيضًا نظام اجتماعي معقد، مع وجود طبقة حاكمة وطبقة من الحرفيين والمزارعين.
خاتمة
تمثل المرحلة ما بعد الكلاسيكية فترة مهمة في تاريخ الأمريكتين قبل كولومبوس. تميزت هذه المرحلة بتحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية كبيرة، وشهدت ظهور إمبراطوريات قوية مثل الأزتيك والإنكا، بالإضافة إلى استمرار تطور ثقافات أخرى مثل المايا وشعوب الميسيسيبي. على الرغم من التحديات والصراعات التي واجهتها هذه الثقافات، إلا أنها تمكنت من تحقيق إنجازات كبيرة في مجالات الفن والعمارة والزراعة والتنظيم الاجتماعي.