نشأة وتطور الإثنوغرافيا المؤسسية
ظهرت الإثنوغرافيا المؤسسية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، كمحاولة لتحدي الأساليب البحثية التقليدية في علم الاجتماع، والتي غالبًا ما كانت تركز على الهياكل والمؤسسات على حساب تجارب الأفراد. يعود الفضل في تطوير هذا المنهج إلى عالمة الاجتماع الكندية دوروثي سميث، التي طورت أفكارها انطلاقًا من دراسات ميدانية معمقة في مجال التعليم والرعاية الصحية. ركزت سميث على ضرورة البدء من تجارب الناس الواقعية لفهم كيفية عمل المؤسسات الاجتماعية، وكيف تؤثر هذه المؤسسات على حياة الأفراد.
تأثرت سميث بشكل كبير بالفكر الماركسي والنسوي، مما انعكس في تركيزها على قضايا القوة واللامساواة الاجتماعية. رأت سميث أن المؤسسات الاجتماعية غالبًا ما تعمل على إخفاء العلاقات الاجتماعية الحقيقية التي تدعمها، وأن الإثنوغرافيا المؤسسية يمكن أن تكشف عن هذه العلاقات من خلال فحص كيفية تنظيم العمل والإنتاج الاجتماعي.
على مر السنين، تطورت الإثنوغرافيا المؤسسية وأصبحت منهجًا بحثيًا متعدد الاستخدامات، يطبق في مجموعة واسعة من المجالات، مثل التعليم والصحة والعمل والسياسة. وقد ساهمت العديد من الباحثين والعلماء في تطوير هذا المنهج، وإضافة أفكار ورؤى جديدة.
المبادئ الأساسية للإثنوغرافيا المؤسسية
تقوم الإثنوغرافيا المؤسسية على عدد من المبادئ الأساسية التي تميزها عن غيرها من مناهج البحث. ومن أبرز هذه المبادئ:
- البدء من تجارب الأفراد: تعتبر تجارب الأفراد المباشرة في العالم الواقعي هي نقطة الانطلاق الأساسية للتحليل. يعتقد الباحثون في الإثنوغرافيا المؤسسية أن هذه التجارب توفر نافذة فريدة على كيفية عمل المؤسسات الاجتماعية.
- التركيز على العلاقات الاجتماعية: تهتم الإثنوغرافيا المؤسسية بفهم العلاقات الاجتماعية التي تشكل المؤسسات الاجتماعية. يركز الباحثون على كيفية تنظيم العمل والإنتاج الاجتماعي، وكيف تؤثر هذه العمليات على حياة الأفراد.
- استكشاف القوة واللامساواة: تولي الإثنوغرافيا المؤسسية اهتمامًا خاصًا بقضايا القوة واللامساواة الاجتماعية. يسعى الباحثون إلى فهم كيف تمارس المؤسسات الاجتماعية القوة وكيف تؤثر على الفئات المختلفة من الناس.
- تحليل النصوص والمستندات: تستخدم الإثنوغرافيا المؤسسية تحليل النصوص والمستندات كأداة لفهم كيفية تنظيم المؤسسات الاجتماعية. يدرس الباحثون السياسات والإجراءات والقواعد واللوائح، وكيف تؤثر هذه العناصر على حياة الأفراد.
- التعاون مع المشاركين: تشجع الإثنوغرافيا المؤسسية على التعاون مع المشاركين في عملية البحث. يعتبر الباحثون المشاركين شركاء في عملية البحث، ويستمعون إلى وجهات نظرهم وخبراتهم.
عملية البحث في الإثنوغرافيا المؤسسية
تتضمن عملية البحث في الإثنوغرافيا المؤسسية عددًا من الخطوات الأساسية:
- تحديد مجال البحث: يبدأ الباحثون بتحديد مجال البحث، وهو عادة ما يكون مؤسسة اجتماعية محددة أو مجموعة من المؤسسات المتصلة ببعضها.
- الدخول إلى الميدان: يقوم الباحثون بجمع البيانات من خلال المقابلات والملاحظات والمشاركة في الأنشطة.
- جمع البيانات: يستخدم الباحثون مجموعة متنوعة من الأساليب لجمع البيانات، بما في ذلك المقابلات المتعمقة، والملاحظة بالمشاركة، وتحليل النصوص والمستندات.
- تحليل البيانات: يقوم الباحثون بتحليل البيانات التي جمعوها، بهدف تحديد الأنماط والعلاقات الاجتماعية التي تشكل المؤسسات الاجتماعية.
- كتابة التقرير: يكتب الباحثون تقريرًا يصف نتائج بحثهم، ويقدمون توصيات حول كيفية تحسين أداء المؤسسات الاجتماعية.
أدوات وتقنيات الإثنوغرافيا المؤسسية
تعتمد الإثنوغرافيا المؤسسية على مجموعة متنوعة من الأدوات والتقنيات لجمع وتحليل البيانات. ومن أبرز هذه الأدوات والتقنيات:
- المقابلات: تعتبر المقابلات أداة أساسية في الإثنوغرافيا المؤسسية. يستخدم الباحثون المقابلات لجمع معلومات متعمقة حول تجارب الأفراد ووجهات نظرهم.
- الملاحظة بالمشاركة: تتضمن الملاحظة بالمشاركة انخراط الباحثين في الأنشطة اليومية للمشاركين، بهدف فهم سلوكهم وتفاعلاتهم.
- تحليل النصوص والمستندات: يتضمن تحليل النصوص والمستندات دراسة السياسات والإجراءات والقواعد واللوائح، بهدف فهم كيفية تنظيم المؤسسات الاجتماعية.
- تحليل الشبكات الاجتماعية: يستخدم تحليل الشبكات الاجتماعية لتحديد العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات داخل المؤسسات الاجتماعية.
- تحليل السجلات: يستخدم لتحليل البيانات الرسمية مثل السجلات والتقارير للحصول على رؤى حول العمليات المؤسسية.
مساهمات الإثنوغرافيا المؤسسية
قدمت الإثنوغرافيا المؤسسية مساهمات كبيرة في فهمنا للعالم الاجتماعي. ومن أبرز هذه المساهمات:
- توفير منظور جديد عن المؤسسات الاجتماعية: ساعدت الإثنوغرافيا المؤسسية في تحويل فهمنا للمؤسسات الاجتماعية من مجرد هياكل مجردة إلى كيانات معقدة تتشكل من خلال العلاقات الاجتماعية.
- تسليط الضوء على قضايا القوة واللامساواة: ساعدت الإثنوغرافيا المؤسسية في تسليط الضوء على قضايا القوة واللامساواة الاجتماعية، وكيف تمارس المؤسسات الاجتماعية القوة وكيف تؤثر على الفئات المختلفة من الناس.
- توفير رؤى حول كيفية تحسين أداء المؤسسات الاجتماعية: قدمت الإثنوغرافيا المؤسسية رؤى حول كيفية تحسين أداء المؤسسات الاجتماعية، من خلال فهم أفضل لكيفية عملها وكيف تؤثر على حياة الأفراد.
- تمكين المشاركين: من خلال التعاون مع المشاركين في عملية البحث، ساعدت الإثنوغرافيا المؤسسية في تمكين المشاركين وإعطائهم صوتًا في عملية صنع القرار.
تحديات الإثنوغرافيا المؤسسية
على الرغم من مساهماتها القيمة، تواجه الإثنوغرافيا المؤسسية عددًا من التحديات:
- الوقت والجهد: تتطلب الإثنوغرافيا المؤسسية وقتًا وجهدًا كبيرين، لأنها تعتمد على دراسات ميدانية معمقة وجمع وتحليل كميات كبيرة من البيانات.
- الصعوبة في الوصول إلى المؤسسات: قد يكون من الصعب على الباحثين الحصول على إذن لدخول المؤسسات الاجتماعية وجمع البيانات.
- التحيز: يمكن أن يتأثر الباحثون بالتحيز الشخصي أو التحيز الثقافي، مما قد يؤثر على نتائج البحث.
- التعقيد: قد يكون من الصعب على الباحثين التعامل مع تعقيد العلاقات الاجتماعية التي تشكل المؤسسات الاجتماعية.
- التحيز الذاتي: قد يواجه الباحثون صعوبة في الحفاظ على الموضوعية أثناء تحليل البيانات، خاصة عند التعامل مع القضايا التي تؤثر على حياتهم الشخصية.
أمثلة على استخدام الإثنوغرافيا المؤسسية
تم استخدام الإثنوغرافيا المؤسسية في مجموعة واسعة من المجالات. ومن أبرز الأمثلة:
- التعليم: تستخدم الإثنوغرافيا المؤسسية لفهم كيفية عمل المدارس، وكيف تؤثر على الطلاب والمعلمين.
- الصحة: تستخدم الإثنوغرافيا المؤسسية لفهم كيفية عمل المستشفيات والعيادات، وكيف تؤثر على المرضى والعاملين في المجال الصحي.
- العمل: تستخدم الإثنوغرافيا المؤسسية لفهم كيفية تنظيم العمل، وكيف تؤثر على العمال والإدارة.
- السياسة: تستخدم الإثنوغرافيا المؤسسية لفهم كيفية عمل المؤسسات السياسية، وكيف تؤثر على المواطنين.
- الرعاية الاجتماعية: تستخدم الإثنوغرافيا المؤسسية لفهم كيفية عمل خدمات الرعاية الاجتماعية، وكيف تؤثر على المستفيدين والعاملين.
الإثنوغرافيا المؤسسية في العالم العربي
على الرغم من أن الإثنوغرافيا المؤسسية لا تزال في مراحلها الأولى في العالم العربي، إلا أنها تشهد اهتمامًا متزايدًا. هناك عدد متزايد من الباحثين العرب الذين يستخدمون هذا المنهج في دراساتهم. ومع ذلك، لا يزال هناك عدد من التحديات التي تواجه الإثنوغرافيا المؤسسية في العالم العربي، مثل محدودية التمويل، وصعوبة الوصول إلى المؤسسات، والحاجة إلى بناء القدرات في مجال البحث النوعي.
يمكن للإثنوغرافيا المؤسسية أن تقدم مساهمات قيمة في فهم القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في العالم العربي. من خلال التركيز على تجارب الأفراد والعلاقات الاجتماعية، يمكن للإثنوغرافيا المؤسسية أن تساعد في تسليط الضوء على القضايا المهمة، مثل الفقر واللامساواة والتمييز والفساد. يمكن أن تساعد الإثنوغرافيا المؤسسية أيضًا في تطوير سياسات وبرامج أفضل، والتي تستجيب لاحتياجات المجتمعات العربية.
الخلاصة
الإثنوغرافيا المؤسسية هي منهج بحثي قيم يقدم رؤى عميقة حول كيفية عمل المؤسسات الاجتماعية وكيف تؤثر على حياة الناس. من خلال التركيز على تجارب الأفراد والعلاقات الاجتماعية، يمكن للإثنوغرافيا المؤسسية أن تساعد في فهم القضايا الاجتماعية المعقدة، وتطوير سياسات وبرامج أفضل. على الرغم من التحديات التي تواجهها، إلا أن الإثنوغرافيا المؤسسية تواصل التطور والنمو، وتقدم مساهمات قيمة في فهمنا للعالم الاجتماعي.
خاتمة
الإثنوغرافيا المؤسسية هي منهج بحثي متطور يقدم رؤى فريدة حول كيفية عمل المؤسسات الاجتماعية وتأثيرها على الأفراد. يعتمد هذا المنهج على فهم تجارب الأفراد، وتحليل العلاقات الاجتماعية، واستكشاف قضايا القوة واللامساواة. على الرغم من التحديات التي تواجهها، فإن الإثنوغرافيا المؤسسية تظل أداة قيمة لفهم العالم الاجتماعي وتطوير سياسات وبرامج فعالة.
المراجع
- Smith, Dorothy E. (2005). Institutional Ethnography: A Sociology for People. Rowman & Littlefield Publishers.
- DeVault, M. L., & McCoy, L. (2013). Institutional Ethnography. In T. Teo (Ed.), Encyclopedia of critical psychology (pp. 1005-1009). Springer.
- Campbell, M. (2003). Institutional Ethnography and Experience as Data: Methodological Implications of Smith’s Sociology for Health Research. Qualitative Health Research, 13(4), 553-568.
- Smith, D. E. (1999). Institutional ethnography. In The handbook of qualitative research (2nd ed., pp. 361-382). SAGE Publications.