خلفية تاريخية
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت تشيكوسلوفاكيا جزءاً من الكتلة الشرقية تحت النفوذ السوفيتي. شهدت الكنيسة الكاثوليكية، التي كانت تتمتع بنفوذ كبير في البلاد، فترة من القمع والاضطهاد. تم تأميم ممتلكات الكنيسة، وتقييد أنشطتها، وسجن العديد من رجال الدين أو إجبارهم على مغادرة البلاد. في هذا السياق، ظهرت فكرة إنشاء منظمة لرجال الدين الكاثوليك تتعاون مع النظام الشيوعي كوسيلة للحفاظ على وجود الكنيسة في ظل الظروف الصعبة.
تأسيس جمعية “باكس إن تيريس”
تأسست جمعية “باكس إن تيريس” في عام 1971 بمبادرة من بعض رجال الدين الكاثوليك الذين كانوا يرغبون في إيجاد أرضية مشتركة مع النظام الشيوعي. كان الهدف المعلن للجمعية هو دعم السلام والتعاون بين الأمم، والعمل من أجل العدالة الاجتماعية، وتعزيز الحوار بين الكنيسة والدولة. ومع ذلك، كان الهدف الحقيقي للجمعية، وفقاً لمعظم المراقبين، هو إخضاع الكنيسة لسيطرة الدولة الشيوعية واستخدامها كأداة للدعاية السياسية.
أهداف الجمعية المعلنة
- دعم السلام والتعاون بين الأمم.
- العمل من أجل العدالة الاجتماعية.
- تعزيز الحوار بين الكنيسة والدولة.
- دعم سياسات الحكومة الاشتراكية.
- مكافحة “الرجعية” و “الإمبريالية”.
أنشطة الجمعية
شاركت جمعية “باكس إن تيريس” في العديد من الأنشطة التي كانت تهدف إلى دعم النظام الشيوعي. نظمت الجمعية مؤتمرات وندوات وفعاليات دعائية تروج لسياسات الحكومة الاشتراكية وتنتقد الغرب الرأسمالي. كما نشرت الجمعية مجلات وكتباً تهدف إلى تبرير التعاون بين الكنيسة والدولة الشيوعية. بالإضافة إلى ذلك، شارك أعضاء الجمعية في الانتخابات المزيفة التي كان ينظمها النظام الشيوعي، وقاموا بالتصويت لصالح المرشحين الذين تدعمهم الحكومة.
انتقادات للجمعية
واجهت جمعية “باكس إن تيريس” انتقادات واسعة النطاق من قبل العديد من الكاثوليك الذين اعتبروها خيانة لمبادئ الكنيسة. اتهم منتقدو الجمعية أعضائها بالتعاون مع نظام قمعي ينتهك الحريات الدينية وحقوق الإنسان. كما اتهموا الجمعية بأنها أداة في يد النظام الشيوعي تستخدم لتشويه صورة الكنيسة وتضليل المؤمنين.
أحد أبرز منتقدي الجمعية كان الكاردينال فرانتيشيك توماشيك، رئيس أساقفة براغ، الذي رفض الانضمام إلى الجمعية وحذر من خطرها على الكنيسة. تعرض الكاردينال توماشيك لضغوط شديدة من قبل النظام الشيوعي بسبب موقفه المعارض للجمعية، لكنه ظل ثابتاً على مبادئه ولم يتنازل عن استقلالية الكنيسة.
تأثير الجمعية على الكنيسة
كان لجمعية “باكس إن تيريس” تأثير سلبي كبير على الكنيسة الكاثوليكية في تشيكوسلوفاكيا. تسببت الجمعية في انقسام بين رجال الدين والمؤمنين، وأضعفت مصداقية الكنيسة في نظر الكثيرين. كما ساهمت الجمعية في تبرير قمع النظام الشيوعي للحريات الدينية وتضييق الخناق على أنشطة الكنيسة.
بعد سقوط النظام الشيوعي في عام 1989، تم حل جمعية “باكس إن تيريس” في عام 1990. تم طرد العديد من أعضاء الجمعية من الكنيسة، واعتذر البعض الآخر عن مشاركتهم في أنشطة الجمعية. لا تزال جمعية “باكس إن تيريس” تمثل وصمة عار في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في تشيكوسلوفاكيا، وتذكرنا بمخاطر التعاون مع الأنظمة القمعية.
الموقف الكنسي الرسمي
كان موقف الكنيسة الكاثوليكية الرسمي تجاه جمعية “باكس إن تيريس” معقداً. من ناحية، لم تعترف الفاتيكان رسمياً بالجمعية ولم تدعم أنشطتها. من ناحية أخرى، لم تدين الفاتيكان الجمعية بشكل قاطع، ربما خوفاً من تفاقم الوضع بالنسبة للكنيسة في تشيكوسلوفاكيا. ومع ذلك، كان هناك العديد من رجال الدين واللاهوتيين الكاثوليك الذين انتقدوا الجمعية علناً واعتبروها مخالفة لتعاليم الكنيسة.
في عام 1982، أصدر الفاتيكان تعليمات سرية لرجال الدين الكاثوليك في تشيكوسلوفاكيا تحذرهم من الانضمام إلى جمعية “باكس إن تيريس” أو المشاركة في أنشطتها. ومع ذلك، لم يتم نشر هذه التعليمات علناً حتى سقوط النظام الشيوعي.
دور الأفراد الرئيسيين
لعب العديد من الأفراد أدواراً رئيسية في جمعية “باكس إن تيريس”، سواء كانوا من المؤيدين أو المعارضين. من بين أبرز المؤيدين كان المطران جوزيف فرينا، الذي كان رئيساً للجمعية لسنوات عديدة. كان المطران فرينا مدافعاً قوياً عن التعاون بين الكنيسة والدولة الشيوعية، وكان يعتبر من الشخصيات المقربة من النظام.
من بين أبرز المعارضين كان الكاردينال فرانتيشيك توماشيك، الذي ذكرناه سابقاً، والأسقف يان كوركوفيتش، الذي كان سجيناً سياسياً لسنوات عديدة بسبب معارضته للنظام الشيوعي. كان الأسقف كوركوفيتش من أشد المنتقدين لجمعية “باكس إن تيريس”، واعتبرها خيانة لضحايا الاضطهاد الديني.
تأثيرها على العلاقات بين الكنيسة والدولة
على الرغم من ادعاءاتها بتعزيز الحوار، فإن جمعية “باكس إن تيريس” أضرت فعليًا بالعلاقات بين الكنيسة والدولة في تشيكوسلوفاكيا. من خلال التعاون مع النظام الشيوعي، قوضت الجمعية استقلالية الكنيسة ومصداقيتها. بعد سقوط النظام الشيوعي، استغرقت الكنيسة سنوات عديدة لاستعادة ثقة الشعب بعد الفضيحة التي تسببت بها الجمعية.
دروس مستفادة
تقدم قصة جمعية “باكس إن تيريس” دروساً قيمة حول مخاطر التعاون مع الأنظمة القمعية. تعلمنا أن الكنيسة يجب أن تحافظ على استقلاليتها ومبادئها في جميع الظروف، وألا تتنازل عن الحريات الدينية وحقوق الإنسان. كما تعلمنا أن التعاون مع الأنظمة القمعية يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية ويضر بسمعة الكنيسة ومصداقيتها.
إرث الجمعية
لا يزال إرث جمعية “باكس إن تيريس” يثير جدلاً في تشيكيا وسلوفاكيا. يرى البعض أن الجمعية كانت محاولة يائسة للحفاظ على وجود الكنيسة في ظل الظروف الصعبة، بينما يعتبرها البعض الآخر خيانة لمبادئ الكنيسة وتعاوناً مع نظام قمعي. مهما كان الرأي، فإن قصة جمعية “باكس إن تيريس” تظل جزءاً مهماً من تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا الشرقية.
خاتمة
كانت جمعية رجال الدين الكاثوليك “باكس إن تيريس” منظمة مثيرة للجدل في تشيكوسلوفاكيا الشيوعية، تهدف ظاهريًا إلى التعاون بين الكنيسة والدولة، ولكنها عمليًا أدت إلى إضعاف الكنيسة وتقويض مصداقيتها. تأسست في عام 1971 وحُلّت في عام 1990، وتركت إرثًا معقدًا من الجدل والانقسام. تعتبر قصة هذه الجمعية تذكيرًا بأهمية استقلالية الكنيسة وضرورة الحفاظ على مبادئها في مواجهة الأنظمة القمعية.