سياق المثل
يأتي مثل الفريسي والعشار بعد عدة تعاليم ليسوع حول الصلاة والتواضع. ففي الأصحاح السابق (لوقا 17)، نجد يسوع يعلم تلاميذه عن أهمية الإيمان والمداومة على الصلاة. وفي بداية الأصحاح الثامن عشر، يقدم يسوع مثل القاضي الظالم والأرملة المستمرة في طلبها، ليحثهم على “أَنْ يُصَلُّوا كُلَّ حِينٍ وَلاَ يَمَلُّوا”.
بعد هذا التعليم، يأتي مثل الفريسي والعشار كمثال عملي على كيفية الصلاة المقبولة عند الله. يوضح المثل الفرق بين الصلاة المتكبرة التي تركز على الذات، والصلاة المتواضعة التي تعترف بالخطأ وتحتاج إلى رحمة الله.
شخصيات المثل
- الفريسي: كان الفريسيون مجموعة دينية واجتماعية بارزة في المجتمع اليهودي في زمن يسوع. كانوا يتميزون بالتزامهم الشديد بالشريعة اليهودية وتفسيراتها التفصيلية. غالبًا ما كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر صلاحًا وتقوى من الآخرين، وكانوا ينتقدون من لا يتبعون تفسيراتهم للشريعة.
- العشار: كان العشارون هم جباة الضرائب لصالح الإمبراطورية الرومانية. كان يُنظر إليهم بازدراء من قبل اليهود، لأنهم كانوا يتعاونون مع السلطات الرومانية ويعتبرون خونة. بالإضافة إلى ذلك، كان العشارون غالبًا ما يسيئون استخدام سلطتهم ويجمعون ضرائب أكثر مما هو مطلوب، مما جعلهم مكروهين ومذمومين في نظر الشعب.
مضمون المثل
يصف المثل كيف ذهب الفريسي والعشار إلى الهيكل للصلاة. وقف الفريسي وصلى في نفسه (أو “مع نفسه”) بهذه الطريقة: “اَللَّهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الْخَاطِفِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلاَ مِثْلَ هذَا الْعَشَّارِ. أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُعَشِّرُ كُلَّ مَا أَقْتَنِيهِ.” (لوقا 18: 11-12). يركز الفريسي في صلاته على صفاته الحسنة وأعماله الصالحة، ويقارن نفسه بالآخرين، خاصة بالعشار، ليظهر تفوقه عليهم.
أما العشار، “فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اَللَّهُمَّ ارْحَمْنِي أَنَا الْخَاطِئَ.” (لوقا 18: 13). يعترف العشار بذنوبه ويطلب رحمة الله. إنه لا يقارن نفسه بأحد، ولا يتباهى بأي عمل صالح قام به.
يختتم يسوع المثل بالقول: “أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ! لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ.” (لوقا 18: 14). يوضح يسوع أن الله يبرر المتواضعين الذين يعترفون بخطاياهم ويطلبون رحمته، وليس المتكبرين الذين يتباهون ببرهم الذاتي.
التفسيرات والدروس المستفادة
يقدم مثل الفريسي والعشار دروسًا مهمة حول التواضع والكبرياء، والصلاة المقبولة عند الله، والدينونة الصالحة. من بين هذه الدروس:
- التواضع أساس الصلاة المقبولة: يعلمنا المثل أن الصلاة الحقيقية يجب أن تنبع من قلب متواضع ومعترف بالخطأ. الله يستمع إلى صرخات التائبين والمحتاجين إلى رحمته، وليس إلى تفاخر المتكبرين.
- الكبرياء خطيئة مهلكة: يوضح المثل أن الكبرياء يمكن أن يعمي الإنسان عن رؤية خطاياه ويمنعه من طلب المغفرة. الكبرياء يجعل الإنسان يركز على ذاته وإنجازاته، وينسى حاجته إلى الله.
- الدينونة الصالحة: يحذرنا المثل من الحكم على الآخرين بناءً على الظاهر. الله وحده هو الذي يعرف القلوب والدوافع، وهو وحده القادر على أن يدين بالعدل. يجب أن نركز على إصلاح أنفسنا بدلاً من إدانة الآخرين.
- أهمية الاعتراف بالخطأ: يشدد المثل على أهمية الاعتراف بالخطأ والتوبة. الله يغفر للذين يعترفون بذنوبهم ويتوبون عنها، ويبدأون حياة جديدة معه.
- الرحمة الإلهية: يظهر المثل رحمة الله العظيمة تجاه الخطاة التائبين. الله مستعد دائمًا لغفران خطايا الذين يطلبون رحمته بتواضع وإخلاص.
تأثير المثل
كان لمثل الفريسي والعشار تأثير كبير على الفكر الديني والأخلاقي. لقد تم استخدامه عبر التاريخ لتوضيح أهمية التواضع وخطورة الكبرياء. وقد ألهم العديد من الفنانين والكتاب والموسيقيين لإنتاج أعمال فنية تعبر عن هذه themes.
لا يزال هذا المثل وثيق الصلة اليوم، حيث يذكرنا بأهمية التواضع والرحمة في حياتنا اليومية. إنه تحدٍ لنا جميعًا لفحص قلوبنا ودوافعنا، والتأكد من أننا نسعى إلى التواضع والصدق في علاقتنا مع الله ومع الآخرين.
في الفن والأدب
تم تصوير مثل الفريسي والعشار في العديد من الأعمال الفنية عبر التاريخ، بما في ذلك اللوحات والمنحوتات والرسوم التوضيحية. غالبًا ما تصور هذه الأعمال الفريسي واقفًا بزهو وثقة، بينما يظهر العشار متواضعًا وخجلًا.
كما ظهر المثل في العديد من الأعمال الأدبية، حيث استخدمه الكتاب لتوضيح موضوعات التواضع والكبرياء والدينونة. وقد ألهم المثل أيضًا العديد من الترانيم والأغاني الدينية التي تحتفي برحمة الله وغفرانه.
تطبيقات معاصرة
لا يزال مثل الفريسي والعشار ذا صلة كبيرة بحياتنا اليومية. يمكننا تطبيق دروسه على العديد من المواقف المختلفة، مثل:
- في علاقاتنا مع الآخرين: يجب أن نتجنب الحكم على الآخرين بناءً على الظاهر، وأن نسعى إلى فهمهم والتعاطف معهم. يجب أن نكون متواضعين في تعاملنا مع الآخرين، وأن نعترف بأخطائنا عندما نرتكبها.
- في حياتنا الروحية: يجب أن نصلي بتواضع وإخلاص، وأن نعترف بحاجتنا إلى رحمة الله. يجب أن نتجنب التفاخر بإنجازاتنا الروحية، وأن نركز على النمو في الإيمان والمحبة.
- في عملنا: يجب أن نكون متواضعين في تعاملنا مع زملائنا ورؤسائنا ومرؤوسينا. يجب أن نكون مستعدين للاعتراف بأخطائنا والتعلم منها. يجب أن نتجنب التفاخر بإنجازاتنا، وأن نركز على خدمة الآخرين وتحقيق أهداف الشركة.
- في مجتمعنا: يجب أن نسعى إلى العدالة والمساواة للجميع. يجب أن نكون صوتًا للمظلومين والمهمشين. يجب أن نتجنب التعصب والتمييز، وأن نحترم حقوق الآخرين.
خاتمة
مثل الفريسي والعشار هو تذكير قوي بأهمية التواضع والرحمة في حياتنا. يدعونا هذا المثل إلى فحص قلوبنا ودوافعنا، والتأكد من أننا نسعى إلى التواضع والصدق في علاقتنا مع الله ومع الآخرين. يجب أن نتجنب الكبرياء والحكم على الآخرين، وأن نركز على النمو في الإيمان والمحبة.