خلفية تاريخية
في القرن الثامن عشر، كانت أسرة تشينغ في أوج قوتها، وكان الإمبراطور تشيان لونغ يسعى لتعزيز شرعيته وسلطته. رأى الإمبراطور أن جمع وتصنيف المعرفة الصينية يمثل وسيلة قوية لتحقيق هذه الأهداف. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك قلق متزايد بشأن انتشار الأفكار “المنحرفة” التي قد تهدد النظام الاجتماعي والسياسي. وهكذا، أطلق الإمبراطور مشروع سيكو كوانشو ليس فقط للحفاظ على المعرفة، ولكن أيضًا لتنظيمها وتنقيتها.
عملية التجميع والتصنيف
بدأ مشروع سيكو كوانشو في عام 1773 واستمر لمدة 20 عامًا تقريبًا. شارك في هذا المشروع الضخم آلاف العلماء والباحثين والناسخين. تم جمع الكتب من جميع أنحاء الصين، من المكتبات الخاصة والعامة، وحتى من الأفراد. تم فحص كل كتاب بعناية، وتم تقييم محتواه وأهميته. ثم تم تصنيف الكتب إلى أربعة أقسام رئيسية، وهي:
- جينغ (الكلاسيكيات): وتشمل الكتب الكونفوشيوسية الأساسية، مثل “الكلاسيكيات الخمسة” و”الكلاسيكيات الأربعة”.
- شي (التاريخ): وتشمل الكتب التاريخية، مثل السجلات الرسمية والتراجم والسير الذاتية.
- زي (الفلسفة): وتشمل الكتب الفلسفية والعلمية والتقنية، مثل أعمال الفلاسفة والكتب الطبية والرياضية.
- جي (الأدب): وتشمل الكتب الأدبية، مثل الشعر والنثر والمسرحيات.
تم تقسيم كل قسم رئيسي إلى أقسام فرعية، مما أدى إلى نظام تصنيف معقد وشامل. تم نسخ جميع الكتب بخط اليد، وتم تجميعها في مجموعات كبيرة. تم إنشاء سبع نسخ كاملة من سيكو كوانشو، تم تخزينها في مكتبات خاصة في أنحاء مختلفة من البلاد. تم تصميم هذه المكتبات خصيصًا لحماية الكتب من الحريق والرطوبة والحشرات.
محتويات سيكو كوانشو
تضم سيكو كوانشو أكثر من 36,000 مجلد، تحتوي على ما يقرب من 79,000 عمل مختلف. تغطي هذه الأعمال مجموعة واسعة من الموضوعات، بما في ذلك الفلسفة والتاريخ والأدب والعلوم والفنون والطب والزراعة والقانون والجيش. تتضمن المجموعة أعمالًا كلاسيكية ومؤلفات حديثة، وتمثل مجموعة متنوعة من وجهات النظر والمدارس الفكرية.
من بين الأعمال الهامة التي تم تضمينها في سيكو كوانشو:
- الكلاسيكيات الكونفوشيوسية: وهي الكتب الأساسية في الفكر الكونفوشيوسي، وتشمل “الكلاسيكيات الخمسة” (كتاب التغيرات، كتاب الوثائق، كتاب الأغاني، سجل الطقوس، حوليات الربيع والخريف) و”الكلاسيكيات الأربعة” (التعليم العظيم، الاعتدال، مختارات كونفوشيوس، كتاب مينسيوس).
- السجلات التاريخية: وهي سجلات تاريخية هامة، مثل “سجلات المؤرخ الكبير” لسيما تشانغ، و”تاريخ هان”.
- الأعمال الفلسفية: وهي أعمال فلاسفة بارزين، مثل لاو تزو، وكونفوشيوس، ومينسيوس، وتشانغ تساي.
- الأعمال الأدبية: وهي أعمال شعرية ونثرية هامة، مثل قصائد لي باي، وقصائد دو فو، ونثر هان يو.
- الأعمال العلمية والتقنية: وهي أعمال في مجالات الرياضيات والفلك والطب والزراعة، مثل “تسعة فصول في فن الرياضيات”، و”بين تساو قانغ مو” (مateria medica).
أهمية سيكو كوانشو
تعتبر سيكو كوانشو عملًا ضخمًا وهامًا في تاريخ الصين. إنها ليست مجرد مجموعة كبيرة من الكتب، ولكنها أيضًا شهادة على المعرفة والثقافة الصينية. لسيكو كوانشو أهمية كبيرة لعدة أسباب:
- الحفاظ على المعرفة: ساهمت سيكو كوانشو في الحفاظ على العديد من الأعمال الهامة التي كانت مهددة بالضياع. من خلال نسخ هذه الأعمال وتخزينها في مكتبات آمنة، تم ضمان بقائها للأجيال القادمة.
- توحيد الفكر: سعت سيكو كوانشو إلى توحيد الفكر الصيني من خلال جمع وتصنيف المعرفة. تم استبعاد الأعمال التي تعتبر “منحرفة” أو “غير تقليدية”، مما ساهم في تعزيز الأيديولوجية الكونفوشيوسية المهيمنة.
- تعزيز سلطة الإمبراطور: استخدم الإمبراطور تشيان لونغ مشروع سيكو كوانشو لتعزيز سلطته وشرعيته. من خلال رعاية هذا المشروع الضخم، أظهر الإمبراطور اهتمامه بالمعرفة والثقافة، وقدم نفسه كحامي للمعرفة الصينية.
- مصدر للدراسة والبحث: لا تزال سيكو كوانشو مصدرًا قيمًا للدراسة والبحث للعلماء والباحثين في جميع أنحاء العالم. توفر المجموعة ثروة من المعلومات حول التاريخ والثقافة والفلسفة الصينية.
انتقادات لسيكو كوانشو
على الرغم من أهميتها، تعرضت سيكو كوانشو أيضًا لانتقادات بسبب جوانب معينة من المشروع. من بين الانتقادات الرئيسية:
- الرقابة: تم استبعاد العديد من الأعمال من سيكو كوانشو بسبب محتواها السياسي أو الديني. تم حظر بعض الأعمال تمامًا، بينما تم تعديل أعمال أخرى لتتوافق مع الأيديولوجية المهيمنة. أدت هذه الرقابة إلى فقدان بعض الأعمال الهامة، وإلى تشويه بعض الأعمال الأخرى.
- التحيز: كان مشروع سيكو كوانشو متحيزًا لصالح الأيديولوجية الكونفوشيوسية. تم التركيز على الأعمال الكونفوشيوسية، بينما تم التقليل من شأن الأعمال الأخرى. أدى هذا التحيز إلى تمثيل غير متوازن للمعرفة الصينية.
- التكلفة: كان مشروع سيكو كوانشو مكلفًا للغاية. تم إنفاق مبالغ طائلة على جمع الكتب ونسخها وتخزينها. يرى بعض النقاد أن هذه الأموال كان يمكن استخدامها بشكل أفضل في مجالات أخرى، مثل التعليم والرعاية الصحية.
تأثير سيكو كوانشو على الثقافة الصينية
تركت سيكو كوانشو تأثيرًا عميقًا على الثقافة الصينية. ساهمت المجموعة في الحفاظ على المعرفة الصينية وتعزيز الأيديولوجية الكونفوشيوسية. كما أثرت سيكو كوانشو على الدراسات الصينية، وشجعت على البحث في التاريخ والثقافة الصينية.
لا تزال سيكو كوانشو تحظى بتقدير كبير في الصين، وتعتبر رمزًا للمعرفة والثقافة الصينية. يتم الاحتفاظ بالنسخ المتبقية من سيكو كوانشو في المكتبات والمتاحف في جميع أنحاء العالم، وتجذب الزوار من جميع أنحاء العالم.
الوضع الحالي لسيكو كوانشو
لسوء الحظ، لم تنجُ جميع النسخ السبع الأصلية من سيكو كوانشو. دمرت الحرائق والحروب بعض النسخ، ولم يتبق سوى أجزاء من نسخ أخرى. ومع ذلك، لا تزال هناك ثلاث نسخ شبه كاملة موجودة حتى اليوم:
- مكتبة الصين الوطنية في بكين: تحتوي على النسخة الأكبر والأكثر اكتمالاً.
- متحف القصر الوطني في تايبيه: يحتوي على نسخة عالية الجودة ولكنها أقل اكتمالاً.
- مكتبة مقاطعة قانسو: تحتوي على نسخة أقل اكتمالاً، ولكنها لا تزال ذات قيمة تاريخية.
بالإضافة إلى ذلك، تم إنشاء العديد من النسخ المصغرة والمطبوعة من سيكو كوانشو في العصر الحديث. هذه النسخ تجعل سيكو كوانشو في متناول جمهور أوسع، وتساهم في انتشار المعرفة الصينية.
خاتمة
سيكو كوانشو هي عمل ضخم في تاريخ الصين، تمثل ذروة الجهود المبذولة لجمع وتصنيف المعرفة الصينية في عهد أسرة تشينغ. على الرغم من بعض الانتقادات الموجهة إليها، فإنها تظل كنزًا ثقافيًا لا يقدر بثمن، ومصدرًا هامًا للدراسة والبحث في التاريخ والثقافة الصينية. إنها شهادة على سعي الصين الدائم للمعرفة، ورغبتها في الحفاظ على تراثها الثقافي للأجيال القادمة.