مقدمة
يشير مصطلح “دي فينيتي” عادةً إلى الإحصائي الإيطالي برونو دي فينيتي، المعروف بمفهومه “الذاتي التشغيلي” للاحتمالية. كان دي فينيتي شخصية بارزة في مجال الإحصاء والاحتمالات، وقدم مساهمات كبيرة غيرت الطريقة التي نفكر بها في الاحتمالية وعدم اليقين.
برونو دي فينيتي: نبذة عن حياته
ولد برونو دي فينيتي في إنسبروك، النمسا، عام 1906، وتوفي في روما، إيطاليا، عام 1985. كان عالم رياضيات وإحصائيًا وفيلسوفًا إيطاليًا. اشتهر بعمله في الاحتمالية الذاتية، حيث جادل بأن الاحتمالات هي مجرد مقاييس شخصية للثقة. درس دي فينيتي الرياضيات في جامعة ميلانو، وحصل على الدكتوراه في عام 1927. عمل في المعهد المركزي للإحصاء في روما من عام 1931 إلى عام 1939، ثم أصبح أستاذًا في جامعة ترييستي في عام 1939. انتقل لاحقًا إلى جامعة روما في عام 1954، حيث بقي حتى تقاعده في عام 1976.
الاحتمالية الذاتية (Subjective Probability)
جوهر فكرة دي فينيتي هو أن الاحتمالية ليست خاصية متأصلة في الأحداث نفسها، بل هي تعبير عن معتقداتنا حول احتمالية وقوعها. بعبارة أخرى، الاحتمالية ذاتية وليست موضوعية. هذا يعني أن الاحتمالات يمكن أن تختلف من شخص لآخر، وهذا أمر طبيعي تمامًا. ما يعتبره شخص ما احتمالًا بنسبة 80٪ قد يعتبره شخص آخر احتمالًا بنسبة 60٪. لا يوجد “صحيح” أو “خطأ” في الاحتمالات الذاتية، طالما أنها متماسكة مع بعضها البعض.
الاحتمالية الذاتية مقابل الاحتمالية الموضوعية: يختلف مفهوم الاحتمالية الذاتية لدي فينيتي اختلافًا جوهريًا عن مفهوم الاحتمالية الموضوعية. ترى الاحتمالية الموضوعية أن الاحتمالات هي خصائص متأصلة في العالم، ويمكن تقديرها من خلال الملاحظة والتجربة. على سبيل المثال، الاحتمالية الموضوعية لرمي عملة معدنية عادلة والحصول على صورة هي 50٪، بغض النظر عمن يقوم بالرمي أو ما يعتقدونه. بينما تؤكد الاحتمالية الذاتية أن هذا الاحتمال هو انعكاس لمعرفتنا المحدودة حول العملة المعدنية وكيفية رميها. إذا كنا نعلم أن العملة المعدنية منحازة، أو أن طريقة الرمي تؤثر على النتيجة، فسوف نغير تقديرنا للاحتمال.
المراهنة المتماسكة (Coherent Betting)
أحد المفاهيم الأساسية في عمل دي فينيتي هو فكرة “المراهنة المتماسكة”. يشير هذا إلى مجموعة من الاحتمالات التي لا يمكن استغلالها من قبل مراهن ذكي. بمعنى آخر، إذا كانت احتمالاتك غير متماسكة، فيمكن لشخص ما أن يراهن ضدك بطريقة تضمن له الربح بغض النظر عن النتيجة.
لفهم هذا المفهوم، تخيل أنك تعرض مراهنة على نتيجة سباق خيل. إذا قمت بتعيين احتمالات لكل حصان بطريقة تجعل مجموع الاحتمالات أكبر من 100٪، فيمكن لشخص ما أن يراهن على كل حصان بكميات مناسبة لضمان ربح بغض النظر عن الفائز. هذا يعني أن احتمالاتك غير متماسكة.
يجادل دي فينيتي بأن العقلانية تتطلب منا أن تكون احتمالاتنا متماسكة. إذا لم تكن كذلك، فنحن عرضة للاستغلال. هذا لا يعني أن احتمالاتنا يجب أن تكون “صحيحة” بالمعنى الموضوعي، ولكن يجب أن تكون متسقة مع بعضها البعض ومع معتقداتنا الأخرى.
نظرية التمثيل (Representation Theorem)
قدم دي فينيتي نظرية التمثيل التي تعتبر حجر الزاوية في الاحتمالية الذاتية. تنص هذه النظرية على أنه إذا كانت لديك مجموعة من الأحداث القابلة للتبديل (أي أن ترتيبها لا يهم)، فيمكن تمثيل معتقداتك حول هذه الأحداث كتوزيع احتمالي على توزيع احتمالي آخر. بمعنى آخر، يمكنك التفكير في الأمر على أنك تعتقد أن هناك “احتمالًا حقيقيًا” لحدث ما، ولكنك لست متأكدًا تمامًا ما هو هذا الاحتمال. لذلك، لديك توزيع احتمالي على الاحتمالات المحتملة.
على سبيل المثال، تخيل أنك ترمي عملة معدنية غير معروفة عددًا من المرات. الأحداث القابلة للتبديل هي نتائج كل رمية (صورة أو كتابة). تنص نظرية التمثيل على أنه يمكنك تمثيل معتقداتك حول نتائج هذه الرميات كتوزيع احتمالي على احتمال الحصول على صورة. قد تعتقد أن احتمال الحصول على صورة هو 50٪، ولكنك لست متأكدًا تمامًا. لذلك، يمكنك تعيين توزيع احتمالي على الاحتمالات المحتملة، مثل توزيع بيتا.
تعتبر نظرية التمثيل أداة قوية لأنها تسمح لنا بتمثيل عدم اليقين بطريقة رسمية. كما أنها توفر أساسًا نظريًا للاستدلال البايزي، وهي طريقة شائعة لتحديث معتقداتنا في ضوء الأدلة الجديدة.
تطبيقات الاحتمالية الذاتية
للاحتمالية الذاتية تطبيقات واسعة في مختلف المجالات، بما في ذلك:
- اتخاذ القرارات: يمكن استخدام الاحتمالية الذاتية لاتخاذ قرارات مستنيرة في ظل عدم اليقين. من خلال تحديد احتمالاتنا الذاتية للنتائج المحتملة، يمكننا تقييم المخاطر والمكافآت المرتبطة بكل خيار واختيار الخيار الذي يزيد من توقعاتنا.
- التمويل: يستخدم المستثمرون الاحتمالية الذاتية لتقييم احتمالية ارتفاع أو انخفاض أسعار الأسهم، واتخاذ قرارات استثمارية بناءً على تقييماتهم.
- التأمين: تستخدم شركات التأمين الاحتمالية الذاتية لتقييم احتمالية وقوع أحداث معينة، مثل الحوادث أو الوفاة، وتحديد أقساط التأمين بناءً على هذه التقييمات.
- الذكاء الاصطناعي: تُستخدم الاحتمالية الذاتية في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي التي يمكنها اتخاذ قرارات في ظل عدم اليقين. على سبيل المثال، يمكن استخدامها لتطوير روبوتات يمكنها التفاوض مع البشر أو اتخاذ قرارات طبية.
- العلوم: حتى في العلوم، حيث يُفترض الموضوعية، يمكن أن تلعب الاحتمالية الذاتية دورًا. على سبيل المثال، قد يستخدم العلماء الاحتمالية الذاتية لتقييم احتمالية صحة فرضية معينة.
نقد الاحتمالية الذاتية
على الرغم من أن الاحتمالية الذاتية قدمت مساهمات كبيرة في مجال الاحتمالات والإحصاء، إلا أنها واجهت بعض الانتقادات. أحد الانتقادات الشائعة هو أنها ذاتية للغاية. يجادل النقاد بأنه إذا كانت الاحتمالات مجرد مقاييس شخصية للثقة، فكيف يمكننا مقارنة الاحتمالات المختلفة التي يعتقدها أشخاص مختلفون؟ وكيف يمكننا التوصل إلى اتفاق حول القرارات التي يجب اتخاذها؟
يجيب أنصار الاحتمالية الذاتية على هذا الانتقاد بالإشارة إلى أن الذاتية ليست بالضرورة عيبًا. يجادلون بأن جميع القرارات تتأثر في النهاية بمعتقداتنا وقيمنا. حتى عندما نحاول أن نكون موضوعيين، فإننا لا نزال نعتمد على افتراضاتنا وأحكامنا. لذلك، من الأفضل الاعتراف بالذاتية بدلاً من محاولة تجاهلها.
انتقاد آخر للاحتمالية الذاتية هو أنه قد يكون من الصعب تحديد الاحتمالات الذاتية في الممارسة العملية. غالبًا ما يكون من الصعب التعبير عن معتقداتنا بشأن الاحتمالات بطريقة دقيقة وقابلة للقياس. ومع ذلك، هناك عدد من التقنيات التي يمكن استخدامها لتحديد الاحتمالات الذاتية، مثل استطلاعات الرأي والمراهنة المحفزة.
إرث برونو دي فينيتي
ترك برونو دي فينيتي إرثًا دائمًا في مجال الاحتمالات والإحصاء. غيرت أفكاره الطريقة التي نفكر بها في الاحتمالية وعدم اليقين، وألهمت جيلًا من الباحثين. لا تزال الاحتمالية الذاتية مجالًا نشطًا للبحث، ولها تطبيقات مهمة في مجموعة متنوعة من المجالات.
خاتمة
برونو دي فينيتي كان إحصائيًا إيطاليًا بارزًا اشتهر بتطويره لمفهوم الاحتمالية الذاتية. جادل دي فينيتي بأن الاحتمالات هي مقاييس شخصية للثقة، وليست خصائص متأصلة في الأحداث نفسها. قدم أيضًا نظرية التمثيل، التي توفر أساسًا نظريًا للاستدلال البايزي. للاحتمالية الذاتية تطبيقات واسعة في مختلف المجالات، بما في ذلك اتخاذ القرارات والتمويل والتأمين والذكاء الاصطناعي والعلوم. على الرغم من بعض الانتقادات، تظل الاحتمالية الذاتية مجالًا نشطًا للبحث، ولها تأثير كبير على الطريقة التي نفكر بها في الاحتمالية وعدم اليقين.