اقتصاد ما قبل الاستعمار
قبل وصول الإسبان، كانت تشيلي مأهولة بالعديد من الشعوب الأصلية، بما في ذلك شعب المابوتشي في الجنوب، وشعوب الأيمارا والأتاكامينيو في الشمال. كانت هذه المجتمعات تعتمد على الزراعة وتربية الحيوانات والصيد وجمع الثمار. تميز اقتصاد المابوتشي بالاكتفاء الذاتي، حيث كانوا يزرعون البطاطا والذرة والفاصوليا، ويربون الأغنام واللاما. أما في الشمال، فقد طورت شعوب الأيمارا والأتاكامينيو أنظمة ري متطورة لزراعة المحاصيل في الصحراء، واستغلوا موارد معدنية مثل النحاس.
الفترة الاستعمارية (1541-1810)
بدأ العصر الاستعماري في تشيلي بوصول الإسبان بقيادة بيدرو دي فالديفيا في عام 1541. أسس الإسبان مدينة سانتياغو، وبدأوا في استغلال الموارد الطبيعية للبلاد، وخاصة الذهب والفضة. اعتمد الاقتصاد الاستعماري على نظام الـ “إنكوميندا”، وهو نظام عمل قسري استغل السكان الأصليين في المناجم والمزارع. أدى هذا النظام إلى تدهور كبير في أعداد السكان الأصليين وتدمير ثقافتهم.
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، تحول اقتصاد تشيلي تدريجيًا نحو الزراعة وتربية الماشية. أصبحت القمح والنبيذ من الصادرات الرئيسية، وتم تطوير نظام الـ “هاسيندا”، وهي مزارع كبيرة تسيطر عليها عائلات ثرية. كان الاقتصاد الاستعماري يعتمد بشكل كبير على التجارة مع إسبانيا، وكانت تشيلي تزود إسبانيا بالمواد الخام وتستورد منها المنتجات المصنعة.
الجمهورية المبكرة (1810-1880)
حصلت تشيلي على استقلالها عن إسبانيا في عام 1818. شهدت العقود الأولى من الجمهورية صراعات سياسية واقتصادية. كان الاقتصاد يعتمد بشكل كبير على الزراعة، مع استمرار هيمنة الـ “هاسيندات” على الأراضي الزراعية. في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ اقتصاد تشيلي في النمو بفضل اكتشاف مناجم النحاس والفضة في الشمال. أدى هذا الاكتشاف إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية وتطوير البنية التحتية، مثل السكك الحديدية والموانئ.
خلال هذه الفترة، شهدت تشيلي أيضًا حروبًا إقليمية، مثل حرب المحيط الهادئ (1879-1883)، التي خاضتها ضد بوليفيا وبيرو. نتيجة لهذه الحرب، ضمت تشيلي أراضٍ غنية بالنيترات، مما أدى إلى ازدهار اقتصادي كبير.
ازدهار النيترات (1880-1930)
أصبح النيترات المنتج الرئيسي لتشيلي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. استخدم النيترات في صناعة الأسمدة والمتفجرات، وكان الطلب عليه مرتفعًا في أوروبا والولايات المتحدة. أدت عائدات النيترات إلى تراكم ثروة كبيرة في تشيلي، وتم استخدامها في تطوير البنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية. ومع ذلك، كان ازدهار النيترات يعتمد بشكل كبير على الطلب الخارجي، وكان عرضة للتقلبات في الأسعار العالمية.
خلال هذه الفترة، شهدت تشيلي أيضًا نموًا في قطاع التعدين، وخاصة النحاس. بدأت شركات أجنبية في استثمار مبالغ كبيرة في مناجم النحاس، مما أدى إلى زيادة الإنتاج والصادرات. ومع ذلك، كان هذا النمو الاقتصادي مصحوبًا بتفاوتات اجتماعية كبيرة، حيث تركزت الثروة في أيدي قلة من العائلات والشركات الأجنبية.
أزمة الكساد الكبير والتدخل الحكومي (1930-1973)
تأثرت تشيلي بشدة بأزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات. انخفض الطلب على النيترات والنحاس بشكل كبير، مما أدى إلى انهيار اقتصادي وارتفاع معدلات البطالة. استجابت الحكومة التشيلية للأزمة بتطبيق سياسات حمائية وتدخلية، مثل فرض قيود على التجارة وتأميم بعض الصناعات. تم إنشاء مؤسسة تشيلية لتعزيز الإنتاج (CORFO) في عام 1939 بهدف تطوير الصناعة المحلية وتنويع الاقتصاد.
خلال هذه الفترة، شهدت تشيلي أيضًا نموًا في الحركة العمالية والحركات الاجتماعية، التي طالبت بتحسين الأجور وظروف العمل. في الستينيات، نفذت الحكومة التشيلية إصلاحات زراعية واسعة النطاق بهدف توزيع الأراضي على الفلاحين. في عام 1970، انتخب سلفادور أليندي رئيسًا لتشيلي، وبدأ في تطبيق سياسات اشتراكية، مثل تأميم صناعة النحاس وتسريع الإصلاح الزراعي.
ديكتاتورية بينوشيه والسياسات الليبرالية الجديدة (1973-1990)
أطاح انقلاب عسكري بقيادة أوغستو بينوشيه بحكومة أليندي في عام 1973. فرض بينوشيه نظامًا ديكتاتوريًا استمر حتى عام 1990. خلال هذه الفترة، طبقت الحكومة سياسات ليبرالية جديدة جذرية، بناءً على توصيات الاقتصاديين من جامعة شيكاغو، والمعروفين باسم “شيكاغو بويز”. شملت هذه السياسات خصخصة الشركات المملوكة للدولة، وتحرير التجارة، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد.
أدت هذه السياسات إلى نمو اقتصادي سريع في الثمانينيات، ولكنها أدت أيضًا إلى زيادة التفاوتات الاجتماعية وتدهور الخدمات العامة. تميزت فترة بينوشيه أيضًا بانتهاكات حقوق الإنسان واسعة النطاق.
الديمقراطية والنمو الاقتصادي (1990-حتى الآن)
عادت تشيلي إلى الديمقراطية في عام 1990. حافظت الحكومات الديمقراطية المتعاقبة على السياسات الليبرالية الجديدة، ولكنها أدخلت بعض التعديلات لتحسين الخدمات العامة وتقليل التفاوتات الاجتماعية. استمر الاقتصاد التشيلي في النمو، مدفوعًا بصادرات النحاس والفواكه والخضروات والنبيذ.
وقعت تشيلي العديد من اتفاقيات التجارة الحرة مع دول أخرى، مما ساهم في زيادة التجارة والاستثمار الأجنبي. ومع ذلك، لا يزال الاقتصاد التشيلي يعتمد بشكل كبير على الموارد الطبيعية، ولا يزال يعاني من بعض التحديات، مثل التفاوتات الاجتماعية والتلوث البيئي.
في السنوات الأخيرة، شهدت تشيلي احتجاجات اجتماعية واسعة النطاق، تطالب بتحسين الخدمات العامة وتقليل التفاوتات الاجتماعية. استجابت الحكومة لهذه المطالب بإجراء إصلاحات في نظام التقاعد والرعاية الصحية والتعليم.
خاتمة
مرّ الاقتصاد التشيلي بتحولات جذرية عبر التاريخ، من الاقتصادات الأصلية المتنوعة إلى الحقبة الاستعمارية التي اعتمدت على استغلال الموارد الطبيعية والعمل القسري، مرورًا بفترة ازدهار النيترات ثم أزمة الكساد الكبير والتدخل الحكومي، وصولًا إلى الديكتاتورية العسكرية والسياسات الليبرالية الجديدة، وأخيرًا العودة إلى الديمقراطية والنمو الاقتصادي. على الرغم من النمو الاقتصادي الذي حققته تشيلي، إلا أنها لا تزال تواجه تحديات كبيرة، مثل التفاوتات الاجتماعية والاعتماد على الموارد الطبيعية والتأثيرات البيئية السلبية. تسعى تشيلي اليوم إلى تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة وشاملة، تضمن العدالة الاجتماعية وحماية البيئة.