نشأة العصبة الديلية وأهدافها
بعد انتهاء الحروب الفارسية في عام 479 قبل الميلاد، اجتمع عدد من المدن اليونانية على جزيرة ديلوس لتشكيل تحالف دفاعي يهدف إلى حماية اليونان من أي هجوم فارسي مستقبلي. كان الهدف الأساسي للعصبة الديلية، والتي سميت على اسم جزيرة ديلوس المقدسة، هو تحرير المدن اليونانية الواقعة تحت السيطرة الفارسية، ومنع عودة الفرس إلى بحر إيجه. وقد تعهدت المدن الأعضاء بتقديم السفن والمال والقوات لدعم هذا الهدف.
كانت أثينا القوة المهيمنة في العصبة الديلية، حيث تولت قيادة التحالف والإشراف على الشؤون المالية والعسكرية. مع مرور الوقت، تحولت العصبة من تحالف طوعي إلى إمبراطورية أثينية، حيث أصبحت المدن الأعضاء تدفع الجزية لأثينا في شكل فوروس.
نظام الفوروس وكيفية تحصيله
تم تحديد الفوروس بناءً على القدرة الاقتصادية للمدن الأعضاء. قامت أثينا بإجراء تقييمات دورية لتحديد المبلغ الذي يجب على كل مدينة دفعه. غالبًا ما كان هذا التقييم غير عادل، حيث اتُهمت أثينا باستغلال قوتها لتحقيق مكاسب اقتصادية.
تم جمع الفوروس سنويًا ونقله إلى أثينا، حيث كان يُخزن في معبد أثينا في الأكروبوليس. استخدمت أثينا هذه الأموال لتمويل مشاريع البناء الضخمة، مثل البارثينون، ولتقوية أسطولها البحري، ولتعزيز قوتها العسكرية بشكل عام. كما استخدمت أثينا جزءًا من الفوروس لدعم حلفائها.
كان الفوروس يُدفع في الأصل كإسهام في المجهود الحربي المشترك. ومع ذلك، مع مرور الوقت، أصبح يمثل جزية مفروضة على المدن الأعضاء. وقد أدى هذا إلى استياء متزايد من سيطرة أثينا وهيمنتها.
تأثير الفوروس على أثينا
ساهم الفوروس بشكل كبير في ازدهار أثينا خلال العصر الذهبي لبيريكليس. فقد مكنها من بناء أسطول بحري قوي، وهو ما سمح لها بالسيطرة على بحر إيجه وتوسيع نفوذها. كما مكنها من تمويل مشاريع البناء الكبرى، مما أدى إلى تحويل أثينا إلى مدينة فنية وثقافية مزدهرة. بالإضافة إلى ذلك، ساعد الفوروس في تمويل الجيش الأثيني، مما جعل أثينا قوة عسكرية مهيبة.
ومع ذلك، كان للفوروس تأثير سلبي على أثينا أيضًا. فقد أدى إلى الفساد والظلم، حيث استغل المسؤولون الأثينيون السلطة لتحقيق مكاسب شخصية. كما أدى إلى التوتر بين أثينا وحلفائها، حيث أصبحت المدن الأعضاء تشعر بالاستياء من سيطرة أثينا وهيمنتها. هذا الاستياء ساهم في اندلاع حرب البيلوبونيز، التي دمرت في النهاية أثينا.
التوتر والنزاعات داخل العصبة الديلية
مع تزايد قوة أثينا وتوسع نفوذها، بدأت المدن الأعضاء في العصبة الديلية تشعر بالقلق بشأن سيطرة أثينا. أدت محاولات أثينا للسيطرة على شؤون المدن الأعضاء والتدخل في شؤونها الداخلية إلى تفاقم التوتر. كما أدت الضرائب الباهظة المفروضة في شكل فوروس إلى تفاقم الاستياء.
بدأت المدن الأعضاء في التمرد على أثينا، مما أدى إلى سلسلة من النزاعات المسلحة. كان أبرز هذه النزاعات هو تمرد ناكسوس في عام 471 قبل الميلاد، والذي قمعته أثينا بعنف. أظهر هذا التمرد أن أثينا كانت على استعداد لاستخدام القوة للحفاظ على سيطرتها على العصبة.
بحلول منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، كانت العصبة الديلية قد تحولت إلى إمبراطورية أثينية، حيث كانت أثينا تفرض سيطرتها على المدن الأعضاء وتستغل مواردها لمصلحتها الخاصة. هذا الوضع أدى إلى تصاعد التوتر بين أثينا وحلفائها، مما مهد الطريق للحرب البيلوبونيزية.
أسباب انهيار العصبة الديلية
كانت هناك عدة أسباب وراء انهيار العصبة الديلية. كان السبب الرئيسي هو الحرب البيلوبونيزية، التي اندلعت بين أثينا وإسبرطة في عام 431 قبل الميلاد. أدت الحرب إلى استنزاف موارد أثينا، وتقويض قوتها العسكرية، وإضعاف سيطرتها على العصبة.
بالإضافة إلى الحرب، ساهمت الفساد والظلم في انهيار العصبة. اتُهم المسؤولون الأثينيون باستغلال السلطة لتحقيق مكاسب شخصية، مما أدى إلى فقدان الثقة في الحكومة الأثينية. كما أدت الضرائب الباهظة المفروضة في شكل فوروس إلى تفاقم الاستياء بين المدن الأعضاء.
كما لعبت المنافسة بين أثينا وإسبرطة دورًا في انهيار العصبة. سعت إسبرطة إلى تقويض قوة أثينا وإضعاف سيطرتها على العصبة. دعمت إسبرطة المدن الأعضاء التي تمردت على أثينا، مما أدى إلى إضعاف سيطرة أثينا وفتح الباب أمام انهيار العصبة.
بحلول عام 404 قبل الميلاد، انهزمت أثينا في الحرب البيلوبونيزية، مما أدى إلى انهيار العصبة الديلية وتدمير الإمبراطورية الأثينية. انتهى الفوروس، وانتهت معه فترة من التاريخ اليوناني تميزت بالازدهار والقوة، ولكن أيضًا بالفساد والصراع.
إرث الفوروس
ترك الفوروس إرثًا دائمًا في التاريخ اليوناني. فقد أظهر كيف يمكن للتحالفات أن تتحول إلى إمبراطوريات، وكيف يمكن للقوة الاقتصادية أن تعزز القوة العسكرية والنفوذ السياسي. كما أظهر كيف يمكن للفساد والظلم أن يقوضا حتى أقوى الإمبراطوريات.
يعتبر الفوروس مثالاً على صعود وسقوط الإمبراطوريات. فقد ساهم في صعود أثينا إلى القوة العظمى في العالم اليوناني، ولكنه ساهم أيضًا في سقوطها. يذكرنا الفوروس بأهمية العدالة والنزاهة في الحكم، وأهمية الحفاظ على العلاقات الجيدة مع الحلفاء.
خاتمة
كان الفوروس جزءًا أساسيًا من نظام العصبة الديلية، ولعب دورًا حاسمًا في صعود أثينا إلى القوة. ومع ذلك، أدى الفوروس أيضًا إلى التوتر والنزاعات داخل العصبة، مما أدى في النهاية إلى انهيارها. يمثل الفوروس مثالًا على صعود وسقوط الإمبراطوريات، ويوفر دروسًا قيمة حول أهمية العدالة والنزاهة في الحكم.
المراجع
- موسوعة بريتانيكا – العصبة الديلية
- موسوعة التاريخ القديم – العصبة الديلية
- التاريخ العالمي – العصبة الديلية
- بروجكت بيرسيوس – تاريخ بيلوبونيز (ثيوسيديدس)
“`