ديفيد ريسمان (David Riesman)
ديفيد ريسمان (1909-2002) عالم اجتماع أمريكي بارز. اشتهر بكتابه المؤثر “الحشد الوحيد” (The Lonely Crowd) الذي نُشر عام 1950. كان ريسمان أستاذاً في علم الاجتماع في جامعة هارفارد، وقد ساهم بشكل كبير في فهمنا للديناميكيات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الأمريكي الحديث.
حياته ونشأته
ولد ديفيد ريسمان في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا عام 1909 لعائلة يهودية ألمانية. تلقى تعليمه في مدرسة ويليام بن، ثم التحق بجامعة هارفارد، حيث حصل على درجة البكالوريوس في عام 1931 وشهادة في القانون عام 1934. بعد تخرجه، عمل كمساعد قانوني للقاضي لويس برانديز في المحكمة العليا الأمريكية. خلال الحرب العالمية الثانية، عمل ريسمان في مكتب المدعي العام، حيث شارك في قضايا تتعلق بتقييد التجارة.
الحشد الوحيد وأهميته
يُعد كتاب “الحشد الوحيد” أشهر أعمال ريسمان وأكثرها تأثيراً. يقدم الكتاب تحليلاً عميقاً للتغيرات التي طرأت على الشخصية الأمريكية وأنماط السلوك الاجتماعي في منتصف القرن العشرين. يجادل ريسمان بأن المجتمع الأمريكي كان ينتقل من مجتمع “موجه من الداخل” (inner-directed) إلى مجتمع “موجه من الخارج” (other-directed).
يشير المجتمع الموجه من الداخل إلى مجتمع يتميز بأفراد لديهم مجموعة قوية من القيم والمعتقدات الداخلية التي توجه سلوكهم. يميل هؤلاء الأفراد إلى أن يكونوا مستقلين وموجهين ذاتياً، ويتخذون قراراتهم بناءً على مبادئهم الخاصة. أما المجتمع الموجه من الخارج، فهو مجتمع يتميز بأفراد يميلون إلى البحث عن موافقة الآخرين وتوجيهاتهم. هؤلاء الأفراد أكثر عرضة للتأثر بآراء أقرانهم ووسائل الإعلام، وغالباً ما يغيرون سلوكهم لتلبية توقعات الآخرين.
يرى ريسمان أن هذا التحول كان مدفوعاً بعدة عوامل، بما في ذلك النمو السكاني، والتوسع الحضري، وتطور وسائل الإعلام الجماهيرية. يعتقد أن المجتمع الموجه من الخارج يميل إلى أن يكون أكثر توافقية وأقل إبداعاً من المجتمع الموجه من الداخل. ومع ذلك، يقر ريسمان أيضاً بأن المجتمع الموجه من الخارج يمكن أن يكون أكثر تسامحاً وانفتاحاً على التغيير.
لقد أثار كتاب “الحشد الوحيد” جدلاً واسعاً عند نشره، لكنه سرعان ما أصبح من الكتب الأكثر مبيعاً وأثر بشكل كبير على الفكر الاجتماعي والثقافي في أمريكا. لا يزال الكتاب يُقرأ ويُناقش حتى اليوم، ويقدم رؤى قيمة حول التحديات التي تواجه المجتمعات الحديثة.
أعمال أخرى
بالإضافة إلى “الحشد الوحيد”، كتب ريسمان العديد من الكتب والمقالات الأخرى حول مواضيع متنوعة، بما في ذلك التعليم، والسياسة، والثقافة الشعبية. من بين أعماله البارزة الأخرى:
- “وجوه في الحشد الوحيد” (Faces in the Crowd): وهو كتاب صدر عام 1952 بالاشتراك مع ناثان جلازر ورئول ديني، ويقدم دراسات حالة مفصلة للأفراد الذين يمثلون أنماط الشخصية المختلفة التي وصفها ريسمان في “الحشد الوحيد”.
- “القيود المفروضة على التغيير” (Constraint and Variety in American Education): وهو كتاب صدر عام 1956، ويتناول قضايا التعليم في الولايات المتحدة، ويدعو إلى إصلاحات تهدف إلى تعزيز التفكير النقدي والإبداع.
- “أبراهام ريسمان: قصة عائلة” (Abram Riesman: A Family Story): وهو كتاب صدر عام 1987، يحكي قصة عائلة ريسمان وتاريخها في أمريكا.
إسهاماته في علم الاجتماع
ساهم ديفيد ريسمان بشكل كبير في مجال علم الاجتماع، وخاصة في فهمنا للتغيرات الاجتماعية والثقافية التي تحدث في المجتمعات الحديثة. يعتبر كتابه “الحشد الوحيد” عملاً رائداً في دراسة الشخصية والمجتمع، وقد أثر بشكل كبير على الأجيال اللاحقة من علماء الاجتماع. بالإضافة إلى ذلك، كان ريسمان مدافعاً قوياً عن التعليم الليبرالي، وكان يؤمن بأهمية تطوير التفكير النقدي والإبداع لدى الطلاب.
تأثيره وإرثه
لا يزال تأثير ديفيد ريسمان محسوساً حتى اليوم. تستمر أفكاره حول المجتمع الموجه من الداخل والمجتمع الموجه من الخارج في إثارة النقاشات حول طبيعة المجتمع الحديث والتحديات التي يواجهها. يُذكر ريسمان بأنه عالم اجتماع بارز ومفكر مؤثر ساهم بشكل كبير في فهمنا للعالم من حولنا.
انتقادات
على الرغم من تأثيره الكبير، لم يسلم ريسمان من الانتقادات. اتهمه البعض بالتبسيط المفرط للظواهر الاجتماعية المعقدة، وباعتماد نظرة متشائمة تجاه المجتمع الأمريكي. كما انتقد البعض الآخر تركيزه على الثقافة الأمريكية البيضاء الطبقة الوسطى، وإهماله لوجهات نظر المجموعات العرقية والإثنية الأخرى. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن عمل ريسمان قد أثار نقاشات مهمة حول طبيعة المجتمع الحديث وتحدياته.
أسلوبه
تميز أسلوب ريسمان بالكتابة الواضحة والسهلة، مع قدرته على تقديم أفكار معقدة بطريقة مفهومة للقارئ العادي. كان أيضاً معروفاً بفكاهته وذكائه، مما جعل كتاباته ممتعة ومثيرة للتفكير.
جوائز وتكريمات
حصل ديفيد ريسمان على العديد من الجوائز والتكريمات تقديراً لإسهاماته في علم الاجتماع، بما في ذلك:
- جائزة ماكافري من جامعة هارفارد.
- زمالة غوغنهايم.
- انتخابه عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.
خاتمة
ديفيد ريسمان كان عالم اجتماع أمريكي بارزاً اشتهر بكتابه “الحشد الوحيد”. قدم ريسمان تحليلاً عميقاً للتغيرات الاجتماعية والثقافية في المجتمع الأمريكي في منتصف القرن العشرين، ولا تزال أفكاره مؤثرة حتى اليوم. ساهم ريسمان في فهمنا للديناميكيات الاجتماعية والثقافية، وترك إرثاً دائماً في مجال علم الاجتماع.