برنارد ستيغلر (Bernard Stiegler)

نشأته وبداياته

ولد ستيغلر في منطقة السين وواز الفرنسية. لم تكن بداياته أكاديمية بالمعنى التقليدي؛ فقد بدأ حياته المهنية في سن مبكرة، وعمل في مجموعة متنوعة من الوظائف. غير أن شغفه بالمعرفة دفعه إلى مواصلة دراسته، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية (EHESS) في باريس. كانت أطروحته بعنوان “التقنية والوقت”، وهي بداية لسلسلة من الأعمال التي ستشكل محور تفكيره.

أفكاره ومساهماته الفلسفية

ركز ستيغلر في كتاباته على العلاقة المعقدة بين التكنولوجيا والإنسان. كان يعتقد أن التكنولوجيا ليست مجرد أداة محايدة، بل هي قوة تشكل وعينا، وعلاقاتنا الاجتماعية، وحتى هويتنا. طرح ستيغلر مفهوم “التقنية” (Pharmakon)، وهو مصطلح يوناني قديم يعني “الدواء” أو “السم” في آن واحد. استخدم ستيغلر هذا المفهوم للإشارة إلى الطبيعة المزدوجة للتكنولوجيا: فهي يمكن أن تكون قوة إيجابية تساعد على التقدم والازدهار، وفي الوقت نفسه، يمكن أن تكون قوة مدمرة، تؤدي إلى التبعية وفقدان السيطرة على الذات.

من أبرز مفاهيمه:

التقنية (Pharmakon): نظرية ستيغلر الأساسية، التي ترى أن التكنولوجيا لها تأثيرات إيجابية وسلبية على البشرية.
العناية (Care): اهتمامه بالعناية كأولوية للمجتمع، خاصة في ظل التطور التكنولوجي السريع.
الاقتصاد المساهم (Contributive Economy): اقتراحه لنظام اقتصادي جديد يعطي قيمة للمساهمات الثقافية والاجتماعية.

ركز ستيغلر على أن التكنولوجيا الحديثة، وخاصة وسائل الإعلام الرقمية، تؤدي إلى “التردي العام” (General Proletarianization). يرى أن هذه التكنولوجيا تعمل على تشتيت الانتباه، وتقليل القدرة على التفكير النقدي، وتعزيز الاستهلاك السلبي. دعا إلى ضرورة تطوير “تقنيات العناية” (Technologies of Care) لمواجهة هذه التأثيرات السلبية، وتشجيع التفكير النقدي والإبداع.

التقنية والوقت

كانت سلسلة “التقنية والوقت” (Technics and Time) عمله الرئيسي، وهو عمل ضخم في أربعة مجلدات، يدرس فيه العلاقة بين التكنولوجيا والوقت. في هذه السلسلة، طور ستيغلر نظرية معقدة حول كيفية تأثير التكنولوجيا على تجربة الإنسان للوقت. يجادل ستيغلر بأن التكنولوجيا لا تسهل فقط تجربة الوقت، بل تعيد تشكيلها بشكل أساسي. يحلل ستيغلر كيف تؤثر التكنولوجيا على الذاكرة، والانتباه، والإبداع.

الاقتصاد المساهم

اقترح ستيغلر مفهوم “الاقتصاد المساهم” كبديل للنظام الرأسمالي الحالي. يرى أن الاقتصاد المساهم يجب أن يعطي قيمة للمساهمات الثقافية والمعرفية، وليس فقط للإنتاج المادي. يهدف هذا النظام إلى تعزيز الإبداع، والابتكار، والتعاون، وتقليل الاعتماد على الاستهلاك المفرط. يعتقد ستيغلر أن الاقتصاد المساهم يمكن أن يساعد في مواجهة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها المجتمعات الحديثة.

العناية والاهتمام

شكلت العناية (Care) محورًا مهمًا في فلسفة ستيغلر. رأى أن العناية ضرورية للحفاظ على المجتمعات الإنسانية. يرى أن التكنولوجيا الحديثة، على الرغم من فوائدها، تهدد العناية من خلال تشتيت الانتباه وتقليل القدرة على التركيز. دعا إلى تطوير تقنيات وأساليب تعزز العناية والاهتمام، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي. يؤمن ستيغلر بأهمية التعليم والفنون والثقافة في بناء مجتمعات قائمة على العناية.

العمل في مجال التعليم

إلى جانب كتاباته الفلسفية، كان ستيغلر ناشطًا في مجال التعليم. أسس وشارك في العديد من المشاريع التعليمية، بهدف تعزيز التفكير النقدي والإبداع. كان يؤمن بأهمية التعليم في تمكين الأفراد من فهم العالم من حولهم والتفاعل معه بشكل فعال. يعتبر ستيغلر أن التعليم يجب أن يركز على تطوير القدرة على التفكير النقدي، وليس مجرد حفظ المعلومات.

تأثيره وإرثه

ترك ستيغلر إرثًا فكريًا عميقًا. أثرت أفكاره على مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك الفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والتصميم، والفنون، والسياسة. ألهمت أعماله العديد من الباحثين والطلاب، وساهمت في إعادة تشكيل النقاش حول العلاقة بين التكنولوجيا والمجتمع. لا تزال أفكاره ذات صلة كبيرة في عصرنا الحالي، حيث تتزايد أهمية التكنولوجيا وتأثيرها على حياتنا.

انتقادات

على الرغم من تأثيره الكبير، تعرضت أفكار ستيغلر لبعض الانتقادات. انتقد البعض أسلوبه في الكتابة، معتبرين أنه معقد وصعب الفهم. كما اتهمه البعض بالتفاؤل المفرط بشأن إمكانية التغلب على التأثيرات السلبية للتكنولوجيا. ومع ذلك، فإن مساهماته في الفكر النقدي لا تزال تحظى بتقدير كبير، وتعتبر ضرورية لفهم تحديات العصر الحديث.

خاتمة

برنارد ستيغلر فيلسوف فرنسي أحدث ثورة في الفكر النقدي المعاصر. ركز على العلاقة المعقدة بين التكنولوجيا والمجتمع، مقترحًا مفاهيم رائدة مثل “التقنية” و”العناية” و”الاقتصاد المساهم”. ترك ستيغلر إرثًا فكريًا غنيًا يؤثر على مجالات متعددة، ولا تزال أفكاره ذات صلة كبيرة في فهمنا للعالم الرقمي المتسارع.

المراجع

“`