نشأته وبداياته
ولد أوتو سيلز في ميونيخ لعائلة يهودية. تلقى تعليمه المبكر في ميونيخ، وأظهر اهتمامًا مبكرًا بالعلوم والفلسفة. درس الفلسفة في جامعة ميونيخ، حيث تأثر بالفكر الفلسفي السائد في عصره، والذي ركز على التحليل المنطقي والتجريبية. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة، تحول سيلز إلى علم النفس، حيث وجد مجالًا أكثر ملاءمة لاهتماماته العلمية.
بدأ سيلز مسيرته الأكاديمية في وقت كانت فيه مدرسة علم النفس الألمانية في أوجها، مع وجود شخصيات بارزة مثل فيلهلم فونت وهيرمان إبنجهاوس. تأثر سيلز بشكل كبير بالعمل التجريبي لإبنجهاوس على الذاكرة، لكنه سعى لتجاوز المنهجية التداعية السائدة في ذلك الوقت، والتي ركزت على دراسة الترابط بين الأفكار. كان يسعى إلى فهم العمليات المعرفية بشكل أكثر دقة.
المنهجية والتجريبية
ركزت منهجية سيلز على دراسة العمليات المعرفية المعقدة، مثل التفكير وحل المشكلات. ابتكر طرقًا تجريبية جديدة لدراسة هذه العمليات، بدلاً من مجرد الاعتماد على الاستبطان. قام بتصميم تجارب تتضمن مهام مثل حل المشكلات الجبرية، وتصنيف الكلمات، وتكوين المفاهيم. سمحت هذه التجارب له بتسجيل سلوك المشاركين بشكل موضوعي، وتحليل البيانات بشكل كمي.
قام سيلز بتطوير نظرية مفصلة للعمليات المعرفية، والتي أطلق عليها اسم “نظرية العمليات المعرفية”. في جوهرها، ركزت هذه النظرية على دور الأهداف والخطط في توجيه التفكير. جادل سيلز بأن التفكير لا يقتصر على مجرد تداعي الأفكار، ولكنه يتضمن أيضًا استخدام الأهداف والخطط لتوجيه العمليات المعرفية. هذا يعني أننا لا نفكر فقط في الأشياء التي تذكرنا بها الأشياء الأخرى، ولكننا نحدد أهدافًا ونخطط لكيفية تحقيقها.
نظرية العمليات المعرفية
تعد نظرية العمليات المعرفية لأوتو سيلز من أهم إسهاماته في علم النفس. فقد قدمت هذه النظرية بديلًا للمناهج التداعية السائدة في ذلك الوقت، والتي ركزت على الترابط بين الأفكار. ركز سيلز على العمليات النشطة التي يشارك فيها الفرد لحل المشكلات وتحقيق الأهداف. وتشمل أبرز مفاهيم هذه النظرية:
- الأهداف: يعتقد سيلز أن التفكير يسترشد بالأهداف. عندما نواجه مشكلة، فإننا نحدد هدفًا لحلها.
- الخطط: بمجرد تحديد الهدف، نضع خططًا لتحقيقه. تتضمن الخطط سلسلة من الخطوات أو العمليات التي يجب اتخاذها.
- العمليات: تتضمن العمليات المعرفية الأساسية التي نستخدمها لتحقيق الأهداف. وتشمل هذه العمليات الإدراك، والذاكرة، والتفكير، واتخاذ القرار.
- مخططات الأفعال: تمثل هياكل معرفية منظمة تحدد كيفية تنفيذ الإجراءات أو المهام.
أكد سيلز على أهمية العمليات النشطة التي يشارك فيها الفرد في التفكير وحل المشكلات. جادل بأن التفكير لا يقتصر على مجرد التداعي، بل يتضمن أيضًا استخدام الأهداف والخطط لتوجيه العمليات المعرفية. قدمت هذه النظرية إطارًا جديدًا لفهم العمليات المعرفية، وأثرت بشكل كبير على تطور علم النفس المعرفي.
حل المشكلات
درس سيلز عملية حل المشكلات بعمق. طور نموذجًا لحل المشكلات يركز على تحديد الهدف، وتخطيط الإجراءات، وتنفيذها. أكد على أهمية الفهم العميق للمشكلة قبل محاولة حلها. وشدد على أن حل المشكلات يتطلب استخدام مجموعة متنوعة من العمليات المعرفية، بما في ذلك الإدراك، والذاكرة، والتفكير، واتخاذ القرار.
حدد سيلز عدة مراحل لحل المشكلات:
- تحديد المشكلة: تتضمن هذه المرحلة التعرف على المشكلة وفهمها.
- تمثيل المشكلة: تتضمن هذه المرحلة بناء نموذج عقلي للمشكلة.
- تخطيط الحل: تتضمن هذه المرحلة وضع خطة لحل المشكلة.
- تنفيذ الحل: تتضمن هذه المرحلة اتخاذ الإجراءات اللازمة لحل المشكلة.
- تقييم الحل: تتضمن هذه المرحلة تقييم ما إذا كان الحل قد نجح.
أظهرت أبحاث سيلز أن حل المشكلات ليس مجرد عملية تداعية، بل يتضمن استخدام الأهداف والخطط لتوجيه العمليات المعرفية. ساهمت هذه الرؤية في تطوير فهمنا لعملية حل المشكلات.
التأثير والتراث
أثرت أعمال أوتو سيلز بشكل كبير على تطوير علم النفس المعرفي. ساهمت نظرياته حول العمليات المعرفية وحل المشكلات في تطوير هذا المجال. أثرت أفكاره على عدد كبير من علماء النفس البارزين، بمن فيهم جان بياجيه وأولريك نيسر. يعتبر سيلز من رواد علم النفس المعرفي، وقد تركت أعماله إرثًا دائمًا في هذا المجال.
بالإضافة إلى مساهماته العلمية، كان سيلز شخصية مؤثرة في تاريخ علم النفس. لقد كان منفتحًا على التعاون مع العلماء الآخرين، وكان يدعم البحث التجريبي. أثرت أفكاره على تطور علم النفس في ألمانيا وأوروبا، وألهمت أجيالًا من علماء النفس.
لسوء الحظ، هرب سيلز من ألمانيا النازية في عام 1933، لكنه لم ينج من المحرقة وتوفي في عام 1943. على الرغم من هذه المأساة، استمرت أفكاره في التأثير على علم النفس، ولا تزال أعماله تدرس حتى اليوم.
أعماله الرئيسية
كتب أوتو سيلز العديد من الكتب والمقالات التي ساهمت في تطوير علم النفس المعرفي. تشمل أعماله الرئيسية:
- “علم النفس الموضوعي” (1913): استعرض في هذا الكتاب أفكاره المبكرة حول العمليات المعرفية.
- “علم النفس المعرفي” (1922): عرض فيه نظريته حول العمليات المعرفية بالتفصيل.
- “حل المشكلات” (1935): قدم فيه نظريته حول عملية حل المشكلات.
ساهمت هذه الأعمال في ترسيخ مكانة سيلز كواحد من أهم علماء النفس في عصره. لا تزال أعماله تدرس وتقتبس حتى اليوم، مما يشهد على أهمية مساهماته في علم النفس.
أهمية عمله
تكمن أهمية عمل أوتو سيلز في عدة جوانب:
- التحول من التداعية: قدم سيلز بديلًا للمنهج التداعي في علم النفس، والذي كان يركز على الترابط بين الأفكار. أظهر سيلز أن التفكير وحل المشكلات يتضمنان عمليات نشطة مثل تحديد الأهداف والتخطيط.
- المنهج التجريبي: استخدم سيلز المنهج التجريبي في دراسة العمليات المعرفية، مما سمح له بقياس السلوك بشكل موضوعي.
- نظرية العمليات المعرفية: قدم سيلز نظرية مفصلة للعمليات المعرفية، والتي أثرت بشكل كبير على تطور علم النفس المعرفي.
- حل المشكلات: قدم سيلز نموذجًا لحل المشكلات، والذي لا يزال يستخدم حتى اليوم.
- التأثير على العلماء الآخرين: أثرت أفكار سيلز على عدد كبير من علماء النفس البارزين، بمن فيهم جان بياجيه وأولريك نيسر.
بشكل عام، كان لأوتو سيلز تأثير كبير على علم النفس، ولا تزال أعماله ذات صلة حتى اليوم.
خاتمة
كان أوتو سيلز عالم نفس ألمانيًا رائدًا، أسهمت أعماله في تأسيس علم النفس المعرفي. قدم سيلز رؤى ثورية حول طبيعة التفكير وحل المشكلات، مؤكدًا على أهمية الأهداف والخطط في توجيه العمليات المعرفية. من خلال منهجه التجريبي ونظرياته المبتكرة، ترك سيلز إرثًا دائمًا في علم النفس، ولا تزال أفكاره تؤثر في دراسة العقل البشري حتى اليوم. على الرغم من وفاته المأساوية، استمرت أعماله في إلهام الباحثين والطلاب في جميع أنحاء العالم.
المراجع
“`