خلفية تاريخية
كتب هارينجتون كتابه في فترة مضطربة من التاريخ الإنجليزي. فبعد الحرب الأهلية الإنجليزية وإعدام الملك تشارلز الأول، تأسست الكومنولث الإنجليزية في عام 1649. كان هارينجتون يشارك في هذه الفترة في النقاشات حول أفضل أشكال الحكم التي يمكن أن تحكم إنجلترا. استلهم هارينجتون من خبرته السياسية ومن دراسته للتاريخ القديم، خاصةً التجربة الجمهورية في روما القديمة.
كان هارينجتون من أشد المؤيدين لفكرة الجمهورية، التي تقوم على مبادئ الحرية والمساواة والمشاركة الشعبية في الحكم. وقد أراد أن يقدم نموذجًا عمليًا لنظام جمهوري مستقر ومزدهر يمكن أن يكون بديلاً للحكم الملكي أو الدكتاتوري.
أفكار هارينجتون الرئيسية
يقدم كتاب “كومنولث أوشيانا” رؤية شاملة لنظام سياسي جديد. يمكن تلخيص الأفكار الرئيسية لهارينجتون في النقاط التالية:
- ملكية الأرض وتوازن السلطة: يرى هارينجتون أن توزيع ملكية الأرض هو الأساس الذي يقوم عليه أي نظام سياسي. يعتقد أن النظام السياسي يعكس بالضرورة توزيع الثروة والسلطة في المجتمع. إذا كان عدد قليل من الناس يمتلكون معظم الأرض، فإنهم سيسعون للسيطرة على الحكومة. ويهدف هارينجتون إلى تحقيق توازن في ملكية الأرض لضمان توازن السلطة.
- مجلس الشيوخ والجمعية: يقترح هارينجتون نظامًا برلمانيًا يتكون من مجلسين: مجلس للشيوخ ومجلس للجمعية. يتولى مجلس الشيوخ مهمة صياغة القوانين والمبادرات، بينما يتولى مجلس الجمعية مهمة الموافقة على القوانين التي يقرها مجلس الشيوخ. يهدف هذا التقسيم إلى تحقيق التوازن بين الحكمة والتمثيل الشعبي.
- التناوب والمناصب: يشدد هارينجتون على أهمية التناوب في المناصب العامة لمنع تمركز السلطة في أيدي قلة. يقترح تحديد مدة ولاية المسؤولين المنتخبين ووضع قيود على إعادة انتخابهم.
- الجيش الشعبي: يرى هارينجتون أن الجيش يجب أن يكون جيشًا شعبيًا، يتكون من المواطنين الذين يمتلكون مصلحة في الدفاع عن دولتهم. يهدف هذا النظام إلى منع الجيش من أن يصبح أداة في يد حاكم مستبد.
- الديمقراطية والجمهورية: يفرق هارينجتون بين الديمقراطية والجمهورية. يرى أن الديمقراطية المباشرة غير عملية وغير مستقرة. يفضل الجمهورية، التي تقوم على مبادئ التمثيل والمشاركة الشعبية في الحكم.
أوشيانا: الدولة المثالية
يقدم هارينجتون في كتابه وصفًا تفصيليًا لدولة أوشيانا، وهي الدولة المثالية التي صممها. تتميز أوشيانا بالعديد من الخصائص التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار والازدهار والحرية لمواطنيها:
- التقسيم الإقليمي: تقسم أوشيانا إلى عدد من المقاطعات أو الأقاليم، ولكل مقاطعة مجلسها التشريعي الخاص بها.
- نظام التصويت: يعتمد نظام التصويت على الملكية، حيث يتمتع أصحاب الأراضي بحق التصويت.
- التعليم: يولي هارينجتون أهمية كبيرة للتعليم، ويدعو إلى توفير التعليم المجاني للجميع.
- القانون: يؤكد هارينجتون على أهمية سيادة القانون وضمان العدالة للجميع.
- الدين: يدعو إلى التسامح الديني وحرية المعتقد.
تأثير كتاب “كومنولث أوشيانا”
حظي كتاب “كومنولث أوشيانا” بتأثير كبير على الفكر السياسي في عصره وما بعده. على الرغم من أن النظام السياسي الذي اقترحه هارينجتون لم يطبق بالكامل في أي مكان، إلا أن أفكاره أثرت في العديد من الحركات الثورية والجمهورية في أوروبا وأمريكا. كان له تأثير كبير على مفكرين مثل جون لوك ومونتسكيو، والذين طوروا أفكارهم حول الديمقراطية والفصل بين السلطات وحقوق الإنسان.
يعتبر الكتاب أيضًا مساهمة هامة في تطوير علم السياسة كفرع مستقل من المعرفة. فقد قدم هارينجتون تحليلًا عميقًا للعلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وأكد على أهمية المؤسسات الدستورية في الحفاظ على الحرية والاستقرار.
الانتقادات والجدل
على الرغم من تأثيره الكبير، لم يسلم كتاب “كومنولث أوشيانا” من الانتقادات. فقد تعرض هارينجتون لانتقادات بسبب:
- تصوره للملكية: اعتبر البعض أن تركيز هارينجتون على ملكية الأرض كمعيار للحقوق السياسية يمثل إقصاءً للعديد من المواطنين.
- نظام التصويت: انتقد البعض نظام التصويت القائم على الملكية، لأنه يمنح أصحاب الأراضي سلطة غير متناسبة.
- التعقيد: اعتبر البعض أن نظام أوشيانا معقد وصعب التطبيق.
- العصر والظروف: نظرًا لظروف كتابته، وتركيزه على إنجلترا في فترة تاريخية معينة، رأى البعض أن أفكاره غير قابلة للتطبيق عالميًا أو عبر العصور.
الأهمية المستمرة
لا تزال أفكار هارينجتون ذات أهمية حتى اليوم. فقد ساهم في إلهام النقاشات حول:
- الديمقراطية التمثيلية: يذكرنا عمله بأهمية التمثيل العادل والمشاركة الشعبية في الحكم.
- الفصل بين السلطات: يؤكد على أهمية الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
- أهمية المؤسسات: يشدد على دور المؤسسات الدستورية في الحفاظ على الحرية والاستقرار.
- العلاقة بين الاقتصاد والسياسة: يسلط الضوء على العلاقة الوثيقة بين توزيع الثروة والنظام السياسي.
يعتبر كتاب “كومنولث أوشيانا” عملًا كلاسيكيًا في الفلسفة السياسية. يتيح لنا دراسة أفكار هارينجتون فهمًا أعمق لتاريخ الفكر السياسي وأسس الديمقراطية الحديثة.
خاتمة
في الختام، قدم جيمس هارينجتون في كتابه “كومنولث أوشيانا” رؤية مبتكرة لنظام الحكم الجمهوري، مستوحاة من التجارب التاريخية القديمة. قدم الكتاب تحليلًا عميقًا للعلاقة بين الاقتصاد والسياسة، وأكد على أهمية التوازن في السلطة والمشاركة الشعبية في الحكم. على الرغم من بعض الانتقادات التي وجهت إليه، إلا أن أفكار هارينجتون لا تزال ذات أهمية كبيرة حتى اليوم، حيث ساهمت في إلهام النقاشات حول الديمقراطية والفصل بين السلطات وأهمية المؤسسات الدستورية. يعتبر الكتاب إسهامًا هامًا في فهمنا لتاريخ الفكر السياسي وأسس الديمقراطية الحديثة.
المراجع
- James Harrington | English politician | Britannica
- James Harrington – The Internet Encyclopedia of Philosophy
- The Commonwealth of Oceana (Cambridge Texts in the History of Political Thought)
- Harrington, James (Stanford Encyclopedia of Philosophy)
“`