نشأته وبداياته
ولد أرسينيي الثالث في بلدة باجوك (Pajuk) في منطقة هراتسوغوفيني (Hercegovina)، والتي كانت آنذاك جزءًا من الدولة العثمانية. نشأ في عائلة متدينة، وتلقى تعليمه الأولي في الأديرة المحلية. أظهر منذ صغره اهتمامًا كبيرًا بالدين واللاهوت، مما دفعه إلى مواصلة دراسته في الأديرة الأكثر شهرة في المنطقة. تلقى أرسينيي علومه في دير بيتش، الذي كان مركزًا روحيًا وثقافيًا هامًا للصرب. خلال فترة دراسته، اكتسب معرفة واسعة باللاهوت والفلسفة والتاريخ، وتعلم اللغات القديمة مثل اليونانية والسلافية الكنسية. هذه المعرفة المتعمقة مكنته من فهم أعمق لتعاليم الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية وقدرته على الدفاع عنها.
بعد الانتهاء من دراسته، بدأ أرسينيي حياته الكنسية كراهب. سرعان ما صعد في الرتب الكنسية، وذلك بفضل مواهبه القيادية ومعرفته الواسعة. في عام 1669، تم تعيينه متروبوليت (مطران) في دير كرسي. وخلال هذه الفترة، أظهر قدرة كبيرة على إدارة شؤون الكنيسة والتعامل مع القضايا السياسية والاجتماعية التي تؤثر على المؤمنين. كان يولي اهتمامًا خاصًا برعاية الكنائس والأديرة، وتعزيز التعليم والثقافة بين الشعب الصربي. كما عمل على تحسين العلاقات مع السلطات العثمانية، في محاولة لحماية حقوق وحريات الأرثوذكس.
بطريرك صربيا
في عام 1674، تم انتخاب أرسينيي الثالث كرنويفتش بطريركًا لصربيا، خلفًا للبطريرك جافريلو الأول. كان هذا المنصب هو أعلى منصب في الكنيسة الأرثوذكسية الصربية، وشمل مسؤوليات دينية وسياسية كبيرة. في ذلك الوقت، كانت صربيا تحت الحكم العثماني، وكان على البطريرك أن يتعامل مع تحديات كبيرة، بما في ذلك القمع الديني والتمييز ضد المسيحيين. واجه أرسينيي صعوبات كبيرة في الدفاع عن حقوق وحريات الكنيسة والشعب الصربي. ومع ذلك، فقد أظهر حكمة وشجاعة كبيرتين في مواجهة هذه التحديات. عمل على الحفاظ على الوحدة الروحية للشعب الصربي وتعزيز هويتهم الثقافية في مواجهة الضغوط الخارجية. قام بزيارة العديد من الكنائس والأديرة، وتشجيع المؤمنين على التمسك بإيمانهم وتقاليدهم.
خلال فترة بطريركيته، برز أرسينيي كقائد ديني وسياسي. فقد كان يشارك بفعالية في المفاوضات مع السلطات العثمانية، ويسعى إلى تحسين أوضاع الشعب الصربي. في الوقت نفسه، حافظ على علاقات جيدة مع القوى الأوروبية، مما ساعد في توفير الدعم والمساعدة للصرب. في عام 1683، اندلعت الحرب العظمى التركية، والتي مثلت نقطة تحول في تاريخ صربيا. تحالف الصرب مع الإمبراطورية النمساوية ضد العثمانيين، مما أدى إلى صراع طويل ومكلف. أيد أرسينيي هذا التحالف، وأمر بدعم القوات النمساوية وتوفير الغذاء والمأوى لهم. هذا الموقف جعله هدفًا للسلطات العثمانية، التي بدأت في اضطهاد الأرثوذكس الصرب.
الهجرة الكبرى
في عام 1690، بعد هزيمة النمساويين في معركة كوسوفو، اضطر أرسينيي الثالث إلى قيادة مجموعة كبيرة من الصرب إلى الهجرة الجماعية إلى الإمبراطورية النمساوية. أطلق على هذه الهجرة اسم “الهجرة الكبرى”. أدت هذه الهجرة إلى تهجير الآلاف من الصرب من ديارهم، مما تسبب في معاناة كبيرة. ومع ذلك، فقد اعتبرت هذه الهجرة بمثابة نصر روحي، حيث تمكن الصرب من الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية بعيدًا عن السيطرة العثمانية. قاد أرسينيي الثالث هذه الهجرة بحكمة وشجاعة، حيث قام بتنظيم عملية الانتقال وتوفير الرعاية للمهاجرين. حصل على دعم الإمبراطور النمساوي، الذي منح الصرب الأراضي والحقوق في الإمبراطورية. لعب أرسينيي دورًا حاسمًا في تأسيس الكنيسة الأرثوذكسية الصربية في الإمبراطورية النمساوية، والتي أصبحت مركزًا هامًا للحفاظ على الهوية والثقافة الصربية.
بعد الهجرة، استقر أرسينيي الثالث في مدينة كارلوفتسي (Sremski Karlovci)، والتي أصبحت مقرًا جديدًا للبطريركية الصربية. عمل على إعادة بناء الكنائس والأديرة، وتعزيز التعليم والثقافة بين الصرب في الإمبراطورية النمساوية. قام بتأسيس العديد من المؤسسات التعليمية والثقافية، والتي ساهمت في الحفاظ على اللغة والأدب والتاريخ الصربي. ظل أرسينيي كرنويفتش نشطًا في الحياة السياسية والدينية، حيث قام بتمثيل الشعب الصربي أمام السلطات النمساوية. عمل على الحصول على المزيد من الحقوق والحريات للصرب، وضمان الحفاظ على دينهم وثقافتهم.
إرثه
توفي أرسينيي الثالث كرنويفتش في 27 أكتوبر 1706 في مدينة فيينا. ودفن في كنيسة دير كرسي (Cruședol Monastery). يعتبر إرثه كبيرًا في تاريخ صربيا. فقد ترك بصمة دائمة على الكنيسة الأرثوذكسية الصربية وعلى الهوية والثقافة الصربية بشكل عام. يُنظر إليه على أنه رمز للمقاومة والصمود، وقائد ديني وسياسي بارز. يذكر اسمه في العديد من الأغاني والقصائد، ويتم الاحتفال به في الكنيسة الأرثوذكسية الصربية. يعتبر أرسينيي الثالث كرنويفتش مثالًا للقيادة الحكيمة والشجاعة في أوقات الأزمات. فقد تمكن من الحفاظ على الوحدة الروحية والثقافية للشعب الصربي في ظل الحكم العثماني، وساهم في تأسيس مجتمع صربي مزدهر في الإمبراطورية النمساوية.
أهميته
كان لأرسينيي الثالث كرنويفتش دور محوري في الحفاظ على الهوية الوطنية والدينية للصرب خلال فترة صعبة من تاريخهم. فقد ساهم في:
- الحفاظ على استمرارية الكنيسة الأرثوذكسية الصربية في مواجهة القمع العثماني.
- قيادة الهجرة الكبرى، التي أنقذت الآلاف من الصرب من الاضطهاد.
- تأسيس مجتمع صربي مزدهر في الإمبراطورية النمساوية، مع الحفاظ على اللغة والثقافة والتقاليد.
- دعم التعليم والثقافة، مما ساهم في تعزيز الوعي الوطني.
- تمثيل الشعب الصربي أمام السلطات النمساوية، مما أدى إلى تحسين أوضاعهم.
إن إرث أرسينيي الثالث كرنويفتش لا يزال حيًا حتى اليوم، ويُحتفى به كأحد أعظم الشخصيات في تاريخ صربيا. فقد جسد قيم الشجاعة والإيمان والوحدة، وترك لنا إرثًا من الإلهام والتحفيز.
خاتمة
في الختام، يمثل أرسينيي الثالث كرنويفتش شخصية تاريخية بالغة الأهمية في تاريخ صربيا. فقد قاد الكنيسة والشعب الصربي خلال فترة عصيبة من الاضطرابات والتحولات. من خلال قيادته الدينية والسياسية الحكيمة، تمكن من الحفاظ على الهوية والثقافة الصربية، وساهم في بناء مجتمع مزدهر في المنفى. يُذكر أرسينيي الثالث كرمز للمقاومة والصمود، وإرثه لا يزال يلهم الأجيال القادمة من الصرب.
المراجع
- Arsenije III Crnojević – Wikipedia
- Arsenije III Crnojević | Serbian Orthodox Church – Britannica
- Велики пресељење Срба 1690. године – Растко
- Архијереји Српске православне цркве – Српска православна црква
“`