أصل الرفع وتطوره
يعود أصل طقس الرفع إلى القرون الأولى للمسيحية، حيث كان المؤمنون يجتمعون لتناول القربان المقدس في سرية. مع مرور الوقت، تطور هذا الطقس ليصبح جزءًا أساسيًا من القداس العام، ليشمل رفع الخبز والخمر بعد التكريس. لم يكن الرفع في البداية مصحوبًا بالطقوس والصلوات التي نراها اليوم، بل كان يهدف ببساطة إلى إظهار القرابين للمؤمنين. ومع تطور الليتورجيا، أُضيفت صلوات وتلاوات تعبر عن الإيمان بحضور المسيح، وعن الشكر والتسبيح لله.
في الكنيسة الشرقية، يمارس الرفع بشكل أكثر تكرارًا، غالبًا ما يرفع الكاهن القرابين عدة مرات خلال القداس، مع تلاوة صلوات معينة. في المقابل، في الكنيسة الغربية، يكون الرفع عادةً مرة واحدة بعد التكريس، مع صلاة معينة تعرف بصلاة “التقديس”.
الرفع في الطقوس الشرقية
في الطقوس الشرقية، يحظى طقس الرفع بأهمية خاصة، ويعتبر رمزًا للإعلان عن مجد المسيح. يختلف هذا الطقس قليلًا بين الطقوس المختلفة (مثل الطقس البيزنطي، الطقس السرياني، الطقس القبطي)، ولكنه يتشارك في جوهره.
- الطقس البيزنطي: في الطقس البيزنطي، والذي يستخدم في الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والكنائس الكاثوليكية الشرقية، يتم رفع القرابين بعد صلاة التكريس، مع تلاوة كلمات معينة تعبر عن الإيمان بحضور المسيح. يرفع الكاهن القرابين عاليًا، وغالبًا ما يدق أجراسًا صغيرة للإشارة إلى هذه اللحظة المقدسة.
- الطقس السرياني: في الطقس السرياني، يمارس الرفع بطريقة مماثلة، مع التركيز على رفع القرابين وإظهارها للمؤمنين. تصاحب هذه العملية صلوات وتلاوات خاصة.
- الطقس القبطي: في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، يتميز طقس الرفع بصلواته الخاصة، التي تعبر عن الإيمان العميق بحضور المسيح في القربان المقدس.
تُعتبر هذه اللحظة فرصة للمؤمنين للتأمل والصلاة، والتعبير عن الإيمان العميق بحضور المسيح، وتجديد العهد معه. يرافق الرفع غالبًا ترانيم خاصة، تهدف إلى خلق جو من الرهبة والتقوى.
الرفع في الطقوس الغربية
في الطقوس الغربية، التي تستخدم في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية والكنائس البروتستانتية المختلفة، يمثل الرفع لحظة بالغة الأهمية في القداس. يركز هذا الطقس على رفع الخبز والخمر بعد التكريس، كإشارة إلى جسد ودم المسيح.
- الكنيسة الكاثوليكية الرومانية: في القداس الروماني، يتم رفع الخبز والخمر بعد صلاة التكريس، مع تلاوة صلاة معينة تعبر عن الإيمان بحضور المسيح في القربان المقدس. يرفع الكاهن الخبز أولاً، ثم الكأس، ويصاحب ذلك غالبًا قرع الجرس. هذه اللحظة هي ذروة القداس، حيث يعتقد الكاثوليك أن الخبز والخمر يتحولان بالفعل إلى جسد ودم المسيح (التحول الجوهري).
- الكنائس البروتستانتية: تختلف ممارسة الرفع في الكنائس البروتستانتية، حيث لا تعترف بعض الكنائس بالتحول الجوهري. قد يمارس بعضهم رفع الخبز والخمر كرمز لتذكر عشاء الرب، بينما لا يمارسه البعض الآخر. يختلف هذا الأمر تبعًا للطائفة والتقاليد.
يتم التأكيد على أهمية هذه اللحظة من خلال الصلوات والتأملات، التي تشجع المؤمنين على التفكير في تضحية المسيح من أجلهم. تهدف هذه الممارسة إلى تعميق الإيمان وتجديد العلاقة مع الله.
أهمية الرفع الروحية واللاهوتية
يمثل الرفع لحظة مركزية في حياة المؤمن المسيحي، فهو يعكس الإيمان العميق بحضور المسيح في القربان المقدس.
- إعلان الإيمان: يعتبر الرفع إعلانًا صريحًا للإيمان بحضور المسيح الحقيقي في القربان المقدس. إنه تأكيد على الإيمان بالتحول الجوهري (في الكنائس التي تعتقد به)، أو على الإيمان بوجود روحي للمسيح في الخبز والخمر.
- التذكير بتضحية المسيح: يذكرنا الرفع بتضحية المسيح على الصليب من أجل خلاص البشرية. فهو دعوة للتأمل في محبة الله، والتوبة عن الخطايا، والسعي إلى حياة مقدسة.
- الوحدة مع المسيح: يمثل الرفع فرصة للمؤمنين للاتحاد مع المسيح، من خلال تناول القربان المقدس. إنه يعزز العلاقة الشخصية مع الله، ويقوي الروابط بين المؤمنين.
- الشكر والتسبيح: يرافق الرفع صلوات الشكر والتسبيح لله، على نعمه ورحمته. إنه تعبير عن الامتنان لعمل الفداء الذي قام به المسيح.
بالإضافة إلى ذلك، يمثل الرفع رمزًا للمجد السماوي، حيث يرى المؤمنون في هذه اللحظة تذكيرًا بمجد المسيح، وانتظارًا للعودة الثانية.
التحضير للرفع والمشاركة فيه
يتطلب المشاركة في طقس الرفع تحضيرًا روحيًا مناسبًا. يجب على المؤمنين أن يستعدوا لهذه اللحظة من خلال:
- الصلاة والتأمل: يجب على المؤمنين تخصيص وقت للصلاة والتأمل قبل القداس، للتفكير في معنى القربان المقدس، وفي حضور المسيح.
- التوبة والمصالحة: يجب على المؤمنين التوبة عن خطاياهم، والسعي إلى المصالحة مع الله والآخرين.
- المشاركة الكاملة: يجب على المؤمنين المشاركة الكاملة في القداس، من خلال الاستماع إلى القراءات، والمشاركة في الصلوات، والترانيم.
- الاستقبال اللائق: يجب على المؤمنين استقبال القربان المقدس باحترام ووقار، والتعبير عن الإيمان العميق بحضور المسيح.
من خلال هذا التحضير، يمكن للمؤمنين أن يعيشوا طقس الرفع بكل معانيه الروحية، وأن يستفيدوا من النعم التي يقدمها لهم الله.
الفرق بين الرفع في الشرق والغرب
على الرغم من أن طقس الرفع يشترك في جوهره بين الطقوس الشرقية والغربية، إلا أن هناك بعض الاختلافات في الممارسة والتفاصيل.
- التكرار: في الطقوس الشرقية، يمارس الرفع بشكل أكثر تكرارًا، في حين أنه يقتصر على مرة واحدة في الطقوس الغربية (في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية).
- الصلوات: تختلف الصلوات التي تصاحب الرفع بين الطقوس المختلفة. لكل طقس صلواته الخاصة التي تعبر عن الإيمان والتقوى.
- الحركات: تختلف الحركات والإيماءات المصاحبة للرفع بين الطقوس المختلفة.
- التركيز: يركز الرفع في الشرق على إظهار مجد المسيح، بينما يركز في الغرب على الإشارة إلى جسد ودم المسيح (في الكنيسة الكاثوليكية).
على الرغم من هذه الاختلافات، يظل الهدف واحدًا: هو إظهار سر حضور المسيح في القربان المقدس، وتعزيز الإيمان في قلوب المؤمنين.
التحديات المعاصرة المتعلقة بالرفع
تواجه ممارسة الرفع في العصر الحديث بعض التحديات، مثل:
- العلمانية: في المجتمعات العلمانية، قد يواجه طقس الرفع بعض المقاومة، بسبب عدم فهم معناه الروحي، أو بسبب رفض القيم الدينية.
- اللامبالاة: قد يشعر بعض المؤمنين باللامبالاة تجاه طقوس القداس، بما في ذلك الرفع، بسبب عدم فهمهم للمعنى الروحي، أو بسبب عدم الممارسة المنتظمة.
- التحريف: في بعض الأحيان، قد يتم تحريف معنى الرفع، من خلال التركيز على الجانب الشكلي دون الاهتمام بالجانب الروحي.
لمواجهة هذه التحديات، من الضروري تثقيف المؤمنين حول معنى الرفع، وتشجيعهم على المشاركة النشطة في القداس، وتعزيز الإيمان بحضور المسيح في القربان المقدس.
الرفع في الفن والعمارة
ألهم طقس الرفع الفنانين والمعماريين على مر العصور، فنجد أنه قد تم تصويره في العديد من اللوحات، والمنحوتات، والأعمال الفنية الأخرى.
- اللوحات: تصور العديد من اللوحات الرفع، وهي تعبر عن الإيمان بحضور المسيح، وعن رهبة هذه اللحظة المقدسة.
- المنحوتات: زينت المنحوتات الكنائس، وعبرت عن رموز الرفع، مثل الصليب، والخبز، والكأس.
- العمارة: صممت الكنائس بشكل يعكس أهمية الرفع، مع تصميمات داخلية تسمح للمصلين برؤية الكاهن وهو يرفع القرابين.
يعتبر الفن والعمارة أدوات قوية لنشر الإيمان، وتذكير المؤمنين بأهمية طقس الرفع. تساعد هذه الأعمال الفنية في خلق جو من التقوى والرهبة، وتعميق الإيمان بحضور المسيح.
خاتمة
يمثل الرفع في الليتورجيا المسيحية لحظة بالغة الأهمية، تجمع بين الإيمان العميق بحضور المسيح، والتعبير عن الشكر والتسبيح لله. يختلف هذا الطقس في تفاصيله بين الطقوس الشرقية والغربية، ولكنه يمثل جوهرًا واحدًا وهو إظهار السر الإلهي للمؤمنين. من خلال المشاركة في الرفع، يمكن للمؤمنين أن يعيشوا تجربة روحية عميقة، تعزز إيمانهم، وتقوي علاقتهم مع الله. يجب على المؤمنين التحضير لهذه اللحظة من خلال الصلاة والتوبة، والمشاركة الكاملة في القداس، واستقبال القربان المقدس باحترام ووقار. إن الرفع هو دعوة للمؤمنين لتجديد العهد مع الله، والعيش في حضوره.
المراجع
- Encyclopedia Britannica: Elevation
- Catholic Encyclopedia: Elevation of the Host
- Orthodox Church in America: The Divine Liturgy
- Catechism of the Catholic Church: The Sacrament of the Eucharist
ال