مقدمة
كرونوسلاف ستيبان دراغانوفيتش (30 أكتوبر 1903 – 5 يوليو 1983) كان كاهنًا كاثوليكيًا كرواتيًا بوسنيًا مرتبطًا بما يعرف بـ “خطوط الفئران” (Ratlines)، وهي شبكة سرية هرّبت مجرمي الحرب النازيين والفاشيين وغيرهم من أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. لعب دراغانوفيتش دورًا محوريًا في هذه العمليات، مستغلاً منصبه الديني وعلاقاته في الفاتيكان لتسهيل تهريب هؤلاء الأفراد إلى أمريكا الجنوبية، وخاصة الأرجنتين.
حياته المبكرة وتعليمه
ولد كرونوسلاف دراغانوفيتش في بريدجراد بالقرب من كوتور فاروش في البوسنة والهرسك، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية. تلقى تعليمه الديني في سراييفو وروما، حيث درس في الكلية الجرمانية الهنغارية البابوية. حصل على درجة الدكتوراه في علم اللاهوت وعاد إلى يوغوسلافيا، حيث أصبح كاهنًا وبدأ مسيرته الأكاديمية.
نشاطه السياسي في فترة الحرب العالمية الثانية
خلال الحرب العالمية الثانية، انخرط دراغانوفيتش في السياسة، وأصبح شخصية بارزة في الحركة القومية الكرواتية. دعم دولة كرواتيا المستقلة، وهي دولة دمية فاشية أنشأتها قوات المحور. عمل دراغانوفيتش في مكتب إعادة التوطين في الدولة الكرواتية المستقلة، وهي مؤسسة لعبت دورًا في الاضطهاد العرقي والديني، بما في ذلك عمليات الترحيل القسري والإبادة الجماعية ضد الصرب واليهود والغجر والمعارضين السياسيين.
دوره في “خطوط الفئران”
بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح دراغانوفيتش منخرطًا بعمق في “خطوط الفئران”، وهي شبكة سرية ساعدت مجرمي الحرب النازيين والفاشيين على الهروب من أوروبا. استغل دراغانوفيتش علاقاته في الفاتيكان والصليب الأحمر ومنظمات أخرى لتزويد هؤلاء الأفراد بوثائق مزورة وتأشيرات سفر، وترتيب نقلهم إلى أمريكا الجنوبية، وخاصة الأرجنتين، التي كانت تحت حكم خوان بيرون.
آلية عمل “خطوط الفئران”:
- توفير الوثائق المزورة: قام دراغانوفيتش وفريقه بتزوير وثائق الهوية وجوازات السفر، مما سمح لمجرمي الحرب بالتحرك بحرية دون الكشف عن هويتهم الحقيقية.
- استخدام قنوات الفاتيكان: استغل دراغانوفيتش علاقاته داخل الفاتيكان للحصول على الدعم اللوجستي والمالي لعمليات التهريب.
- التعاون مع منظمات أخرى: عمل دراغانوفيتش مع منظمات مثل الصليب الأحمر ومنظمات الإغاثة الأخرى لتوفير المساعدة لمجرمي الحرب.
- تأمين ملاذ آمن في أمريكا الجنوبية: قام دراغانوفيتش بترتيب نقل مجرمي الحرب إلى الأرجنتين ودول أخرى في أمريكا الجنوبية، حيث تمكنوا من العيش في سلام نسبي تحت هويات مزيفة.
من بين أبرز مجرمي الحرب الذين ساعدهم دراغانوفيتش على الهروب: أنتي بافليتش، الزعيم الفاشي لدولة كرواتيا المستقلة، وكلاوس باربي، رئيس الجستابو في ليون. لعب دراغانوفيتش دورًا حاسمًا في حماية هؤلاء الأفراد من الملاحقة القضائية وتأمين ملاذ آمن لهم.
التحقيق معه
على الرغم من الأدلة الدامغة ضده، لم يتم تقديم دراغانوفيتش إلى العدالة مطلقًا. في عام 1967، عاد إلى يوغوسلافيا بعد أن وعده مسؤولون يوغوسلافيون بالحصانة. ومع ذلك، فقد تم استجوابه من قبل السلطات اليوغوسلافية، لكن لم يتم توجيه أي اتهامات إليه. عاش دراغانوفيتش في سراييفو حتى وفاته في عام 1983.
إرثه
لا يزال إرث كرونوسلاف دراغانوفيتش مثيرًا للجدل. يعتبره البعض بطلاً قوميًا كرواتيًا، بينما يعتبره آخرون مجرم حرب مسؤولاً عن تسهيل هروب مجرمي الحرب النازيين والفاشيين. دوره في “خطوط الفئران” يظل وصمة عار على سمعة الكنيسة الكاثوليكية، ويثير تساؤلات حول مدى تورط الفاتيكان في مساعدة مجرمي الحرب على الهروب من العدالة.
تأثيره على الكنيسة الكاثوليكية:
- تشويه سمعة الكنيسة: أدى تورط دراغانوفيتش في “خطوط الفئران” إلى تشويه سمعة الكنيسة الكاثوليكية، وأثار تساؤلات حول مدى معرفة الفاتيكان بعمليات التهريب.
- دعوات للمساءلة: دعا العديد من المؤرخين والباحثين الفاتيكان إلى فتح أرشيفاته للكشف عن الحقيقة الكاملة حول دور الكنيسة في مساعدة مجرمي الحرب على الهروب.
- تأثير على العلاقات بين الأديان: أدت القضية إلى توترات في العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية والطوائف الدينية الأخرى، وخاصة الكنيسة الأرثوذكسية الصربية.
تظل قضية كرونوسلاف دراغانوفيتش تذكيرًا صارخًا بالآثار المدمرة للحرب والاضطهاد، وأهمية محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الفظائع.
تفاصيل إضافية حول أنشطته
من الجدير بالذكر أن دراغانوفيتش لم يكن مجرد وسيط سلبي في “خطوط الفئران”. بل كان منظمًا نشطًا ومحركًا رئيسيًا للعمليات. قام بتجنيد أعضاء آخرين في الشبكة، وتنسيق عمليات التهريب، وجمع الأموال لتمويل الأنشطة. كما استخدم نفوذه الديني والسياسي لحماية مجرمي الحرب من الملاحقة القضائية.
دور المخابرات الأمريكية:
تشير بعض المصادر إلى أن المخابرات الأمريكية كانت على علم بأنشطة دراغانوفيتش، وربما تكون قد تعاونت معه في بعض الأحيان. كان لدى الولايات المتحدة مصالحها الخاصة في فترة ما بعد الحرب، بما في ذلك تجنيد العلماء والخبراء النازيين للعمل في مشاريعها. قد يكون دراغانوفيتش قد لعب دورًا في تسهيل هذا التعاون.
جدل حول دوافعه:
هناك جدل كبير حول دوافع دراغانوفيتش. يرى البعض أنه كان مدفوعًا بمعتقداته القومية الكرواتية، ورغبته في حماية الكرواتيين من الانتقام بعد الحرب. ويرى آخرون أنه كان مدفوعًا بمصالح شخصية، مثل الرغبة في الحصول على السلطة والنفوذ. من المحتمل أن تكون مجموعة من العوامل قد ساهمت في أفعاله.
محاولات لتبرئة ساحته
على الرغم من الأدلة الدامغة ضده، فقد بذلت جهود لتبرئة ساحة دراغانوفيتش. يرى بعض المؤرخين والقوميين الكرواتيين أنه كان ضحية للدعاية الشيوعية، وأن دوره في “خطوط الفئران” قد تم تضخيمه. ومع ذلك، فإن هذه الادعاءات لا تستند إلى أدلة قوية، وتتناقض مع الحقائق التاريخية المعروفة.
خاتمة
كرونوسلاف دراغانوفيتش شخصية مثيرة للجدل في التاريخ الأوروبي الحديث. لعب دورًا محوريًا في تسهيل هروب مجرمي الحرب النازيين والفاشيين بعد الحرب العالمية الثانية، مستغلاً منصبه الديني وعلاقاته في الفاتيكان. على الرغم من الأدلة الدامغة ضده، لم يتم تقديمه إلى العدالة مطلقًا، ولا يزال إرثه مثيرًا للجدل حتى يومنا هذا. تظل قضيته تذكيرًا بأهمية محاسبة المسؤولين عن ارتكاب الفظائع، وعدم السماح لهم بالهروب من العدالة.