ديس (Dis) (الكوميديا الإلهية)

بنية مدينة ديس

بنيت مدينة ديس لتكون مدينة للجحيم السفلي، حيث تتركز الشرور والأعمال الشنيعة. تصورها دانتي كمدينة محاطة بأسوار عالية وخنادق مائية عميقة، مما يجعل الوصول إليها صعبًا ومستحيلاً على الأبرياء. تمثل هذه الأسوار والخنادق رمزًا للعزلة والقسوة التي تميز هذا الجزء من الجحيم. يصف دانتي المدينة بأنها مكان مظلم ومخيف، يسوده الصمت واليأس.

الخندق المحيط بمدينة ديس يتكون من عدة طبقات أو دوائر، كل منها مخصص لخطايا معينة. تزداد الخطايا سوءًا كلما تعمقنا في الدائرة، مما يعكس التدرج الهرمي للعقاب في الجحيم. هذه الهيكلة الدائرية تعكس رؤية دانتي للعالم الأخلاقي، حيث يُعاقب كل خطيئة بعقاب يتناسب مع طبيعتها وشدتها.

الدائرة السادسة: الهرطقة

تبدأ الدوائر الداخلية لمدينة ديس بالدائرة السادسة، المخصصة للهراطقة. يعاني هؤلاء في قبور مشتعلة بالنار، في إشارة إلى معتقداتهم الخاطئة التي أحرقت أرواحهم. في هذه الدائرة، يلتقي دانتي بالعديد من الهراطقة الذين عارضوا الكنيسة الكاثوليكية، مثل إبيقور وأتباعه. يعكس هذا العقاب رؤية دانتي للمعتقدات الدينية، وكيف أن الانحراف عنها يؤدي إلى عذاب أبدي.

تعتبر هذه الدائرة بداية للجحيم السفلي الحقيقي، حيث يزداد العذاب كثافة وشدة. النار التي تحرق القبور تمثل العذاب الداخلي الذي يعاني منه الهراطقة، والوحدة التي يعيشونها في قبورهم تعبر عن عزلهم عن رحمة الله.

الدائرة السابعة: العنف

الدائرة السابعة مخصصة للعنف، وتنقسم إلى ثلاث حلقات، كل منها يعاقب نوعًا مختلفًا من العنف. في الحلقة الأولى، يعاقب العنف ضد الآخرين والممتلكات، حيث يغلي المجرمون في نهر من الدم. في الحلقة الثانية، يعاقب الانتحار، حيث تتحول أرواح المنتحرين إلى أشجار قاحلة تتألم. أما الحلقة الثالثة، فتعاقب العنف ضد الله والطبيعة، حيث يتعرض المجرمون لـأمطار من النار.

هذه الدائرة تمثل تدرجًا في العنف، من العنف الجسدي إلى العنف الروحي. يعكس هذا التدرج أهمية احترام الحياة والممتلكات، وكذلك احترام الله والطبيعة. العقاب في هذه الدائرة يتناسب مع طبيعة الجريمة، مما يعكس رؤية دانتي للعدالة الإلهية.

الدائرة الثامنة: الاحتيال

الدائرة الثامنة، والمعروفة باسم ماليبوج (Malebolge)، مخصصة للاحتيال. تتكون هذه الدائرة من عشرة أخاديد (Bolge)، كل منها يعاقب نوعًا مختلفًا من الخداع والاحتيال. تشمل هذه الأخاديد:

الأخدود الأول: يضم المغوون، الذين يسيرون في اتجاهات متضادة بشكل مستمر.
الأخدود الثاني: يضم المتملقين، الذين يغرقون في براز بشري.
الأخدود الثالث: يضم السيمونيين (الذين يتاجرون بالأشياء المقدسة)، الذين يدفنون رأسًا على عقب في ثقوب مشتعلة.
الأخدود الرابع: يضم العرافين والمنجمين، الذين يعانون من تشوه رؤوسهم بشكل دائم.
الأخدود الخامس: يضم المرتشين، الذين يغرقون في بحيرة من القطران المغلي.
الأخدود السادس: يضم المنافقين، الذين يرتدون عباءات ذهبية ثقيلة.
الأخدود السابع: يضم اللصوص، الذين يتعرضون للعض من قبل الثعابين.
الأخدود الثامن: يضم المستشارين المخادعين، الذين يلتفون في لهب.
الأخدود التاسع: يضم مروجي الانقسام، الذين يتم تمزيقهم.
الأخدود العاشر: يضم المزيفين، الذين يعانون من أمراض مقززة.

هذه الدائرة هي الأكثر تفصيلاً في الجحيم، وتعكس مدى انتشار الاحتيال والخداع في العالم. كل أخدود يعرض نوعًا مختلفًا من الخداع، والعقاب يتناسب مع طبيعة الجريمة. ماليبوج هي رمز للفساد والشرور الإنسانية.

الدائرة التاسعة: الخيانة

الدائرة التاسعة، وهي آخر دوائر الجحيم، مخصصة للخونة. هذه الدائرة مقسمة إلى أربع مناطق، تتناسب مع أنواع مختلفة من الخيانة:

كاين (Caina): للخونة لأقاربهم، الذين يغرقون في الجليد.
أنتينورا (Antenora): للخونة لوطنهم، الذين يعانون في الجليد.
بوليما (Ptolomea): للخونة لضيوفهم، الذين يعانون من الجليد حتى منتصف أجسامهم، بينما تتمكن أرواحهم من مغادرة أجسادهم.
جوديكا (Judecca): للخونة للمعلمين والملوك، بمن فيهم يهوذا الإسخريوطي، الذي يعاني من العذاب في الجليد.

هذه الدائرة هي أعمق وأكثر مناطق الجحيم قسوة. يعاني الخونة من أشد أنواع العذاب، حيث يغرقون في بحيرة جليدية تعرف باسم كوكيتوس (Cocytus). هذا يعكس رؤية دانتي للخيانة كأشد أنواع الخطايا، حيث أنها تدمر العلاقات الإنسانية وتزعزع الثقة.

المخلوقات في مدينة ديس

تشمل مدينة ديس العديد من المخلوقات الشيطانية، التي تعمل كحراس ومعذبين للأرواح. من أبرز هذه المخلوقات:

الملاعين (Furies): يمثلون الغضب والانتقام.
الوحش مينوتوس (Minotaur): يمثل العنف والوحشية.
الوحوش الماليبوجي (Malebranche): وهم شياطين ذوي أجنحة سوداء، يمثلون الخداع والاحتيال.
لوسيفر (Lucifer): وهو الشيطان الأكبر، المحبوس في الجليد في الدائرة التاسعة.

هذه المخلوقات تعكس الجوانب الشريرة للطبيعة الإنسانية، وتلعب دورًا حيويًا في عذاب الأرواح في الجحيم. تصميمها المخيف يعزز جو الرعب والقسوة في مدينة ديس.

أهمية مدينة ديس

تمثل مدينة ديس مركز الجحيم في “الكوميديا الإلهية”، وهي المكان الذي يتجسد فيه الشر بأقصى درجاته. تصور المدينة بأدق تفاصيلها، وتعكس رؤية دانتي للعالم الأخلاقي، وتصميمه المعماري والرمزي يدل على نظام صارم للعقاب يتناسب مع كل خطيئة. من خلال استكشاف مدينة ديس، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل رؤية دانتي للعالم، ومعتقداته الدينية، وأحكامه الأخلاقية.

خاتمة

مدينة ديس في “الكوميديا الإلهية” هي رمز للقسوة والعذاب الأبدي، وتقع في أعماق الجحيم، محاطة بالأسوار والخنادق. من الدائرة السادسة إلى الدائرة التاسعة، يواجه الخطاة عقابًا يتناسب مع خطاياهم، مع وجود شياطين وحراس ينفذون العقوبات. تعكس هذه المدينة رؤية دانتي للعالم الأخلاقي، حيث يُعاقب الشر ويُجازى الفضيلة. استكشاف مدينة ديس يساعدنا على فهم طبيعة الشر والعذاب، وأهمية اختيار طريق الصلاح.

المراجع

“`