مقدمة عن جورج إيفانوفيتش جوردجيف
جورج إيفانوفيتش جوردجيف (1866-1949) كان فيلسوفًا ومعلمًا روحيًا أرمنيًا يونانيًا. يعتبر جوردجيف شخصية محورية في تطور الفكر الباطني في القرن العشرين. طور نظامًا تعليميًا فريدًا يسمى “الطريق الرابع”، والذي يهدف إلى تطوير الوعي الذاتي للإنسان وتحقيق إمكاناته الكاملة. يعتمد هذا النظام على ثلاثة مسارات رئيسية: العمل الجسدي، والعمل العاطفي، والعمل الفكري. يؤكد جوردجيف على أهمية العمل المتوازن على جميع هذه المستويات لتحقيق التغيير الحقيقي.
ركز جوردجيف على فكرة أن معظم الناس يعيشون في حالة من “النوم”، أي أنهم غير واعين لأنفسهم وللعالم من حولهم. يهدف الطريق الرابع إلى إيقاظ هؤلاء الناس من هذا النوم من خلال العمل الجاد على الذات. يرى جوردجيف أن الإنسان كآلة، تعمل بشكل آلي. لتحقيق الوعي الحقيقي، يجب على الإنسان أن يتعلم كيف يراقب نفسه، ويتحكم في أفكاره ومشاعره، ويتخلص من العادات السلبية.
مفهوم قانون الثمانية والأربعين
قانون الثمانية والأربعين هو أحد المفاهيم الأساسية في نظام جوردجيف. يشير هذا القانون إلى أن كل عملية في الكون، من أصغر العمليات إلى أعظمها، تخضع لقانون يعيقها ويجعل تقدمها ليس خطيًا بل متعرجًا. يمثل هذا القانون العلاقة بين الجهد والنتائج. يعتمد التقدم على التغلب على العقبات التي تعترض مسار التطور. يمثل الرقم “8” عددًا رمزيًا يمثل دورة، بينما يمثل الرقم “48” عددًا أكبر يعكس طبيعة القانون المعقدة.
وفقًا لهذا القانون، يجب أن تتواجد ثلاثة “توقفات” أو “نقاط تباطؤ” في أي عملية أو مشروع. هذه التوقفات هي نقاط حيث تتغير طبيعة الطاقة. تعتمد هذه التغييرات على عوامل خارجية أو داخلية، والتي تحدد اتجاه التطور. يمكن أن تكون هذه التوقفات إيجابية أو سلبية، مما يؤثر على مسار التقدم نحو الهدف.
يشبه قانون الثمانية والأربعين إلى حد كبير قانون الجاذبية في الفيزياء. فالجاذبية تجذب الأشياء نحو الأسفل، ولكن يجب على المرء أن يبذل جهدًا أكبر للتغلب على هذه القوة. في سياق الوعي، يمثل قانون الثمانية والأربعين القوى الداخلية والخارجية التي تعيق النمو الروحي. يتطلب التغلب على هذه القوى الوعي الذاتي والجهد المستمر.
مستوى الأرض في سياق “الطريق الرابع”
يشير “مستوى الأرض” إلى حالة الوجود التي يعيش فيها معظم الناس. في هذا المستوى، يكون الوعي محدودًا، والناس يعيشون في حالة من “النوم”. إنهم مقيدون بالآلات الداخلية (الأفكار، العواطف، الرغبات) التي تتحكم في سلوكهم. يعتقد جوردجيف أن معظم الناس يعيشون في هذا المستوى، غير مدركين لإمكاناتهم الحقيقية أو للعالم من حولهم.
يرتبط “مستوى الأرض” ارتباطًا وثيقًا بقانون الثمانية والأربعين. فالناس في هذا المستوى هم ضحايا لقانون الثمانية والأربعين، أي أنهم يتأثرون بالعقبات والتوقفات دون وعي. يهدف “الطريق الرابع” إلى مساعدة الناس على تجاوز هذا المستوى والوصول إلى مستويات أعلى من الوعي. يتم ذلك من خلال العمل الجاد على الذات، والذي يتضمن مراقبة الأفكار، والتحكم في المشاعر، وتطوير الوعي.
العلاقة بين الوعي والوجود
يرى جوردجيف أن الوعي والوجود مرتبطان ارتباطًا وثيقًا. يعتقد أن مستوى الوعي الذي يمتلكه الشخص يحدد مستوى وجوده. كلما زاد الوعي، زاد الوجود. في “مستوى الأرض”، يكون الوعي محدودًا، وبالتالي يكون الوجود محدودًا. من خلال العمل على تطوير الوعي، يمكن للمرء أن يرفع مستوى وجوده ويختبر واقعًا أعمق وأكثر شمولية.
يدعو جوردجيف إلى ضرورة العمل على “الذات” الداخلية من خلال الممارسات مثل التأمل، والوعي الذاتي، والعمل مع مجموعات أخرى من الأشخاص الذين يسعون لتحقيق نفس الأهداف. هذه الممارسات تساعد على كسر الأنماط السلبية، والتحكم في الآلات الداخلية، وتوسيع نطاق الوعي. الهدف النهائي هو تحقيق حالة من الوعي المستمر، حيث يكون الفرد على دراية بكل ما يحدث داخله وخارجه.
العمل على الذات في “الطريق الرابع”
يتضمن “الطريق الرابع” ثلاثة أنواع من العمل على الذات: العمل الجسدي، والعمل العاطفي، والعمل الفكري. يجب أن يكون هناك توازن بين هذه الأنواع الثلاثة لتحقيق التقدم الحقيقي. يمثل كل نوع من أنواع العمل جانبًا مختلفًا من طبيعة الإنسان.
- العمل الجسدي: يشمل التحكم في الجسم من خلال ممارسة الرياضة، واتباع نظام غذائي صحي، والتخلص من العادات السيئة. يهدف هذا العمل إلى تقوية الجسم وتحسين الصحة العامة.
- العمل العاطفي: يشمل التحكم في المشاعر، والتعرف على المشاعر السلبية، وتعلم كيفية التعبير عن المشاعر بشكل صحي. يهدف هذا العمل إلى تحقيق التوازن العاطفي.
- العمل الفكري: يشمل مراقبة الأفكار، وتطوير القدرة على التركيز، وتعلم التفكير النقدي. يهدف هذا العمل إلى تنمية القدرات الفكرية.
العمل على الذات يتطلب جهدًا مستمرًا وتفانيًا. يجب على الشخص أن يكون واعيًا بأفكاره ومشاعره وسلوكياته في جميع الأوقات. يتضمن ذلك مراقبة الذات، وتقييم الأخطاء، والعمل على تصحيحها. يساعد هذا العمل على تطوير الوعي الذاتي والتحكم في الذات.
الفرق بين الوعي والوعي الذاتي
يميز جوردجيف بين الوعي والوعي الذاتي. الوعي هو القدرة على الإدراك، بينما الوعي الذاتي هو الوعي بالذات. يعتبر الوعي الذاتي هو الهدف النهائي لـ “الطريق الرابع”. يعني الوعي الذاتي أن الشخص يدرك أفكاره ومشاعره وسلوكياته، ويكون قادرًا على مراقبتها والتحكم فيها.
الوعي الذاتي يتطلب جهدًا واعيًا. يجب على الشخص أن يعمل بجد لتطوير هذه القدرة. يتضمن ذلك ممارسة التأمل، والوعي بالجسم، والتعرف على الأنماط السلبية. يساعد الوعي الذاتي على كسر الأنماط القديمة، وتحقيق التغيير الإيجابي، والعيش في حالة من الوعي المستمر.
تأثير قانون الثمانية والأربعين على الحياة اليومية
قانون الثمانية والأربعين يؤثر على جميع جوانب الحياة اليومية. إنه يوضح سبب صعوبة تحقيق الأهداف، وسبب عدم سير الأمور دائمًا كما هو مخطط لها. من خلال فهم هذا القانون، يمكن للمرء أن يتعلم كيفية التغلب على العقبات والتوقفات التي تعيق التقدم. يمكن للمرء أن يخطط للتقدم نحو الأهداف بطريقة أكثر واقعية، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك دائمًا عقبات يجب التغلب عليها.
على سبيل المثال، إذا كان الشخص يحاول تعلم مهارة جديدة، فسوف يواجه بالتأكيد صعوبات و”توقفات”. قد يشعر بالإحباط عندما لا يرى نتائج فورية، أو عندما يرتكب أخطاء. ومع ذلك، من خلال فهم قانون الثمانية والأربعين، يمكن للشخص أن يدرك أن هذه الصعوبات هي جزء طبيعي من العملية. يمكنه أن يتعلم من أخطائه، وأن يواصل المضي قدمًا نحو الهدف. يمكن للقانون أن يساعد على بناء المرونة والتصميم.
تطبيقات مستوى الأرض في الحياة العملية
فهم مستوى الأرض وقانون الثمانية والأربعين له تطبيقات عملية في الحياة اليومية. من خلال الوعي بمستوى الأرض، يمكن للمرء أن يبدأ في رؤية العالم بشكل مختلف. يمكنه أن يلاحظ كيف أن الآخرين يتصرفون بشكل آلي، وكيف أنهم يتأثرون بالآلات الداخلية الخاصة بهم. يمكنه أن يتعلم كيفية التواصل مع الآخرين بشكل أكثر فعالية، من خلال فهم دوافعهم وسلوكياتهم.
يمكن تطبيق هذه المعرفة في مجالات مختلفة من الحياة، مثل العلاقات الشخصية، والعمل، والتعليم. في العلاقات الشخصية، يمكن للمرء أن يتعلم كيفية بناء علاقات أكثر صحة ووعيًا. في العمل، يمكن للمرء أن يتعلم كيفية تحقيق أهداف أكثر واقعية وفعالية. في التعليم، يمكن للمرء أن يتعلم كيفية تطوير قدرات التعلم الخاصة به. كل هذه الأمثلة تتطلب الوعي الذاتي والجهد المستمر.
التحرر من مستوى الأرض
التحرر من مستوى الأرض هو عملية مستمرة. يتطلب جهدًا مستمرًا وتفانيًا. لا يوجد حل سحري أو طريقة سريعة لتحقيق ذلك. ومع ذلك، من خلال العمل على الذات، يمكن للمرء أن يبدأ في تطوير الوعي الذاتي، والتحكم في الذات، والعيش في حالة من الوعي المستمر.
يتضمن التحرر من مستوى الأرض التغلب على العادات السلبية، وتطوير المشاعر الإيجابية، وتنمية القدرات الفكرية. يتطلب أيضًا التعاون مع الآخرين الذين يسعون لتحقيق نفس الأهداف. يمكن أن يكون هذا التحالف بمثابة دعم وتشجيع في عملية النمو. الهدف النهائي هو الوصول إلى مستوى أعلى من الوجود، حيث يكون الفرد على دراية بكل ما يحدث داخله وخارجه.
خاتمة
مفهوم “مستوى الأرض” في “الطريق الرابع” لجورج جوردجيف يقدم رؤية عميقة لطبيعة الوعي الإنساني وعلاقته بالكون. يمثل هذا المفهوم، جنبًا إلى جنب مع قانون الثمانية والأربعين، إطارًا لفهم كيف تعمل الحياة وكيف يمكن للإنسان أن يتغلب على القيود الذاتية والوصول إلى مستويات أعلى من الوعي والوجود. يتطلب هذا الطريق جهدًا مستمرًا، وتفانيًا، وعملًا جادًا على الذات. من خلال فهم هذه المفاهيم وتطبيقها في الحياة اليومية، يمكن للمرء أن يبدأ رحلة نحو التحرر والنمو الروحي.