<![CDATA[
خلفية تاريخية
في عام 1870، قامت القوات الإيطالية بغزو روما، مما أدى إلى نهاية الدولة البابوية التي استمرت قرونًا. فقد البابا، الذي كان يسيطر على جزء كبير من شبه الجزيرة الإيطالية، سلطته الزمنية وأصبح محصورًا داخل أسوار الفاتيكان. اعتبر الباباوات المتعاقبون أن هذه العملية بمثابة انتهاك لحقوقهم وسيادتهم. وقد أدى ذلك إلى توتر شديد في العلاقات بين الكنيسة والدولة الإيطالية الجديدة.
كان رد فعل الكنيسة الكاثوليكية هو رفض الاعتراف بشرعية الدولة الإيطالية. فقد أعلن البابا بيوس التاسع نفسه سجينًا في الفاتيكان، وأصدر سلسلة من البيانات التي تدين ما اعتبرته اعتداءً على حقوق الكنيسة. من بين هذه البيانات، أصدر البابا في عام 1874 مرسومًا بعنوان “نون إكسبيديت”، والذي منع الكاثوليك الإيطاليين من المشاركة في الانتخابات الوطنية أو شغل مناصب عامة. كان الهدف هو إضعاف الحكومة الإيطالية الجديدة وإظهار عدم شرعيتها في نظر المؤمنين.
أسباب فرض سياسة المقاطعة
كانت هناك عدة أسباب دفعت الكرسي الرسولي إلى تبني سياسة “نون إكسبيديت”.
- الحفاظ على الاستقلال: أرادت الكنيسة أن تحافظ على استقلالها عن الدولة الإيطالية. اعتقد الباباوات أن المشاركة في السياسة الإيطالية ستعرض استقلالهم للخطر وستجعلهم عرضة للتدخل الحكومي.
- الدفاع عن الحقوق: اعتقد الباباوات أن احتلال روما كان انتهاكًا لحقوق الكنيسة وممتلكاتها. أرادوا أن يدافعوا عن حقوقهم ويطالبوا باستعادة أراضيهم.
- إظهار عدم الشرعية: أراد الباباوات أن يظهروا أن الدولة الإيطالية الجديدة غير شرعية وغير مقبولة في نظر المؤمنين. اعتقدوا أن مقاطعة الانتخابات والمناصب العامة ستضعف الحكومة وتجعلها أقل قدرة على الحكم.
تأثيرات سياسة “نون إكسبيديت”
كان لسياسة “نون إكسبيديت” تأثيرات كبيرة على الحياة السياسية والاجتماعية في إيطاليا.
- العزلة السياسية: عزلت سياسة “نون إكسبيديت” الكاثوليك الإيطاليين عن العملية السياسية. لم يتمكنوا من التصويت أو شغل مناصب عامة، مما قلل من نفوذهم السياسي.
- ظهور الأحزاب الكاثوليكية: على الرغم من حظر المشاركة في السياسة الوطنية، ظهرت أحزاب سياسية كاثوليكية على المستوى المحلي. أتاحت هذه الأحزاب للكاثوليك المشاركة في الحياة السياسية بطرق محدودة.
- توتر العلاقات: أدت سياسة “نون إكسبيديت” إلى تفاقم التوتر بين الكنيسة والدولة الإيطالية. استمرت هذه العلاقات المتوترة لعقود، مما أثر على العديد من جوانب الحياة الإيطالية.
- تراجع المشاركة الانتخابية: أدت المقاطعة إلى انخفاض ملحوظ في معدلات الإقبال على التصويت، وخاصة في المناطق التي كان بها عدد كبير من السكان الكاثوليك.
- تأثير على المجتمع المدني: أثرت المقاطعة على تطور المجتمع المدني في إيطاليا، حيث قللت من مشاركة الكاثوليك في المنظمات غير الحكومية والأنشطة الاجتماعية الأخرى.
نهاية سياسة المقاطعة
استمرت سياسة “نون إكسبيديت” لعقود. ومع ذلك، بدأت الكنيسة في تغيير موقفها تدريجيًا في أوائل القرن العشرين. أدرك الباباوات أن سياسة المقاطعة لم تكن فعالة في تحقيق أهدافهم، وأنها تضر بالكاثوليك الإيطاليين. بدأت الكنيسة في تشجيع الكاثوليك على المشاركة في السياسة المحلية، ثم في السياسة الوطنية تدريجيًا.
في عام 1919، بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، سمح البابا بندكت الخامس عشر للكاثوليك الإيطاليين بالمشاركة في الانتخابات الوطنية. كان هذا بمثابة نهاية رسمية لسياسة “نون إكسبيديت”. شهدت الانتخابات البرلمانية الإيطالية عام 1919 مشاركة واسعة النطاق من الكاثوليك، مما أدى إلى تعزيز قوتهم السياسية.
في عام 1929، تم توقيع معاهدة لاتران بين الكنيسة والدولة الإيطالية. اعترفت المعاهدة بسيادة الفاتيكان ووضعت أسسًا لعلاقات جديدة بين الكنيسة والدولة. أنهت المعاهدة رسميًا التوتر الذي كان موجودًا بينهما منذ عام 1870.
أهمية “نون إكسبيديت”
تمثل سياسة “نون إكسبيديت” فترة مهمة في تاريخ العلاقات بين الكنيسة والدولة، وفي تاريخ إيطاليا الحديثة. لقد أظهرت هذه السياسة قوة الكنيسة الكاثوليكية وقدرتها على التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية. كما أنها عكست الصراع المستمر بين الدين والدولة في العصر الحديث.
تُظهر سياسة “نون إكسبيديت” أيضًا كيف يمكن للدين أن يؤثر في تشكيل الهوية الوطنية. من خلال مقاطعة الدولة الإيطالية، سعى الكاثوليك إلى الحفاظ على هويتهم الدينية المتميزة. في الوقت نفسه، ساهمت هذه المقاطعة في انقسام المجتمع الإيطالي وفي تأخير عملية توحيده.
بالإضافة إلى ذلك، تُعد سياسة “نون إكسبيديت” درسًا حول تعقيد العلاقة بين الدين والسياسة. فهي تذكرنا بأن الدين يمكن أن يكون قوة قوية للتغيير، لكنه يمكن أن يكون أيضًا مصدرًا للتوتر والصراع. يمكن أن يؤثر الدين على مجموعة متنوعة من القضايا السياسية والاجتماعية، من حقوق الإنسان إلى القومية.
إرث “نون إكسبيديت”
تركت سياسة “نون إكسبيديت” إرثًا دائمًا في إيطاليا. فقد ساهمت في تشكيل الأحزاب السياسية الإيطالية، وخاصة الحزب الديمقراطي المسيحي، الذي لعب دورًا مهيمنًا في السياسة الإيطالية لعقود بعد الحرب العالمية الثانية. كما أثرت في تطور العلاقات بين الكنيسة والدولة في إيطاليا، وأدت إلى إنشاء نظام علماني يضمن حرية الدين مع الحفاظ على انفصال واضح بين الكنيسة والدولة. لا يزال صدى هذه السياسة يتردد في النقاشات حول العلاقة بين الدين والسياسة في إيطاليا اليوم.
التغيرات في سياسة الكنيسة
يمثل التخلي عن “نون إكسبيديت” تحولًا كبيرًا في سياسة الكنيسة الكاثوليكية. فقد عكس هذا التحول تحولًا أوسع في رؤية الكنيسة لدورها في العالم. بدلاً من محاولة عزل نفسها عن المجتمع، بدأت الكنيسة في الانخراط بشكل أكبر في الحياة السياسية والاجتماعية. شجعت الكنيسة الكاثوليك على لعب دور نشط في المجتمع والمشاركة في عملية صنع القرار السياسي.
كما مثل التخلي عن “نون إكسبيديت” اعترافًا بأن أهداف الكنيسة يمكن تحقيقها بشكل أفضل من خلال العمل مع الدولة، وليس ضدها. أدركت الكنيسة أن المشاركة في السياسة يمكن أن تسمح لها بالتأثير في القوانين والسياسات التي تهمها، مثل التعليم والرعاية الاجتماعية وحماية حقوق الإنسان.
“نون إكسبيديت” اليوم
على الرغم من انتهاء سياسة “نون إكسبيديت” رسميًا منذ أكثر من قرن، إلا أنها لا تزال موضوعًا للدراسة والمناقشة. يدرس المؤرخون والعلماء تأثير هذه السياسة على الحياة السياسية والاجتماعية في إيطاليا، وكيف ساهمت في تشكيل العلاقة بين الكنيسة والدولة.
تُعد سياسة “نون إكسبيديت” أيضًا ذات صلة بالمناقشات المعاصرة حول دور الدين في السياسة. إنها تثير أسئلة حول ما إذا كان للدين الحق في التدخل في الشؤون السياسية، وكيف يجب أن تتعامل الدولة مع الجماعات الدينية. تقدم هذه السياسة درسًا قيمًا حول تعقيد العلاقة بين الدين والدولة، وأهمية إيجاد توازن بينهما.
الخلاصة
خاتمة
كانت سياسة “نون إكسبيديت” سياسة مقاطعة فرضها الكرسي الرسولي على الكاثوليك الإيطاليين بعد احتلال روما في عام 1870. كان الهدف هو الحفاظ على استقلال الكنيسة والدفاع عن حقوقها، وإظهار عدم شرعية الدولة الإيطالية الجديدة. أدت هذه السياسة إلى عزلة سياسية للكاثوليك، وتأثيرات كبيرة على الحياة السياسية والاجتماعية في إيطاليا. تم التخلي عن السياسة في أوائل القرن العشرين، مما أدى إلى تحول كبير في سياسة الكنيسة. لا تزال “نون إكسبيديت” تمثل فترة مهمة في تاريخ العلاقات بين الكنيسة والدولة وفي تاريخ إيطاليا الحديثة، وتقدم دروسًا حول تعقيد العلاقة بين الدين والسياسة.