مقدمة
الهدوئية (Quietism) هو الاسم الذي يُطلق (خاصة في اللاهوت الكاثوليكي الروماني) على مجموعة من الممارسات التأملية التي اكتسبت شعبية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. تتمحور هذه الممارسات حول الاعتقاد بأن الكمال الروحي يتحقق من خلال السلبية التامة والتخلي عن الذات لإرادة الله. يعتبر الهدوئيون أن الروح يجب أن تبقى في حالة هدوء وسكون دائمين، متخلية عن أي جهد أو رغبة شخصية، حتى تتمكن من استقبال عمل الله بفعالية.
الأصول التاريخية والتطور
على الرغم من أن مصطلح “الهدوئية” ظهر في القرن السابع عشر، إلا أن جذور هذه الأفكار يمكن تتبعها إلى تقاليد صوفية أقدم في المسيحية. نجد في كتابات بعض المتصوفين أمثال ميستر إكهارت وجان فان رويسبروك عناصر تشبه الهدوئية، مثل التركيز على الاتحاد بالله من خلال السلبية والتخلي عن الذات. ومع ذلك، لم تتبلور الهدوئية كمذهب متميز إلا في العصر الحديث المبكر.
الشخصية الرئيسية المرتبطة بالهدوئية هي القس الإسباني ميغيل دي مولينوس (Miguel de Molinos)، الذي يعتبر مؤسسها. نشر مولينوس كتابه “الدليل الروحي” (Guía Espiritual) في عام 1675، والذي لاقى رواجًا واسعًا وسرعان ما انتشر في جميع أنحاء أوروبا. دافع مولينوس في كتابه عن طريق روحاني بسيط ومباشر، يؤكد على أهمية الصلاة الداخلية والسلبية التامة أمام الله. زعم أن الروح يجب أن تتخلى عن كل الأفكار والرغبات والجهود الشخصية، وأن تسمح لله بالعمل فيها بحرية.
أثارت أفكار مولينوس جدلاً واسعًا وسرعان ما أثارت معارضة من السلطات الكنسية. اتهم منتقدوه بأنه يعلم الهدوء والسلبية المفرطة، مما يؤدي إلى اللامبالاة الأخلاقية وإهمال الواجبات الدينية. في عام 1687، أُدينت آراء مولينوس رسميًا من قبل البابا إنوسنت الحادي عشر، واضطر مولينوس إلى التراجع عنها علنًا. قضى بقية حياته في السجن، وتوفي عام 1696.
على الرغم من إدانة مولينوس، استمرت أفكاره في الانتشار والتأثير في بعض الأوساط الروحية. ظهرت شخصيات أخرى تبنت آراء مماثلة، مثل مدام جايون (Madame Guyon) في فرنسا، والتي كانت مدافعة متحمسة عن الصلاة السلبية والتخلي عن الذات. ومع ذلك، واجهت مدام جايون أيضًا معارضة شديدة من السلطات الكنسية، وخاصة من الأسقف بوسويه (Bossuet)، الذي كان ناقدًا شرسًا للهدوئية.
المبادئ الأساسية للهدوئية
تتميز الهدوئية بعدة مبادئ أساسية، من بينها:
- السلبية التامة: الاعتقاد بأن الروح يجب أن تبقى في حالة سلبية تامة، متخلية عن أي جهد أو رغبة شخصية. يجب على الروح أن تتوقف عن التفكير والتحليل والتأمل، وأن تسمح لله بالعمل فيها بحرية.
- التخلي عن الذات: التخلي عن كل التعلقات الدنيوية والرغبات الشخصية، بما في ذلك الرغبة في الفضيلة أو الكمال. يجب على الروح أن تتخلى عن كل شيء لله، وأن تثق به ثقة كاملة.
- الصلاة الداخلية: التركيز على الصلاة الداخلية الصامتة، بدلاً من الصلوات الشفهية أو الطقوس الخارجية. يجب على الروح أن تبقى في حالة حضور دائم أمام الله، دون أي جهد أو تدخل شخصي.
- الاتحاد بالله: الهدف النهائي للهدوئية هو تحقيق الاتحاد الكامل بالله، حيث تذوب الروح في الإرادة الإلهية وتفقد هويتها الفردية.
انتقادات الهدوئية
واجهت الهدوئية العديد من الانتقادات من قبل علماء اللاهوت والفلاسفة، من بينها:
- اللامبالاة الأخلاقية: زعم منتقدو الهدوئية أن التركيز المفرط على السلبية والتخلي عن الذات يؤدي إلى اللامبالاة الأخلاقية وإهمال الواجبات الدينية. إذا كانت الروح يجب أن تبقى في حالة سلبية تامة، فما الداعي إلى بذل أي جهد لتحسين الذات أو مساعدة الآخرين؟
- التصوف المفرط: رأى البعض أن الهدوئية تمثل شكلًا مفرطًا من التصوف، يتجاهل أهمية العقل والإرادة في الحياة الروحية. يجب على الإنسان أن يستخدم عقله وإرادته للتمييز بين الخير والشر، واتخاذ القرارات الأخلاقية، وليس مجرد الاستسلام لإرادة الله بشكل أعمى.
- الهرطقة: اتهم البعض الهدوئية بالهرطقة، لأنها تتعارض مع بعض العقائد الأساسية للكنيسة الكاثوليكية. على سبيل المثال، يعتقد الهدوئيون أن الروح يمكن أن تصل إلى حالة من الكمال المطلق في هذه الحياة، وهو ما يتعارض مع العقيدة الكاثوليكية التي تؤكد على أهمية النعمة الإلهية والتوبة المستمرة.
تأثير الهدوئية وإرثها
على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليها والإدانة الرسمية من قبل الكنيسة، كان للهدوئية تأثير كبير على الفكر الروحي المسيحي. ساهمت الهدوئية في إحياء الاهتمام بالصلاة الداخلية والتأمل الصامت، وأثرت في العديد من الحركات الروحية اللاحقة. كما أنها سلطت الضوء على أهمية التخلي عن الذات والثقة بالله في الحياة الروحية.
يمكن تلمس تأثير الهدوئية في بعض الحركات البروتستانتية، مثل حركة التقوى (Pietism) في ألمانيا، والتي أكدت على أهمية التجربة الدينية الشخصية والعيش وفقًا لتعاليم الكتاب المقدس. كما يمكن رؤية تأثيرها في بعض الحركات الكويكرز (Quakers)، الذين يركزون على الصمت والتأمل الداخلي في عبادتهم.
بالإضافة إلى ذلك، ألهمت الهدوئية العديد من الكتاب والشعراء والفنانين، الذين وجدوا فيها مصدر إلهام للتعبير عن تجاربهم الروحية. على سبيل المثال، تأثر الشاعر الإنجليزي ويليام وردزورث (William Wordsworth) بأفكار الهدوئية، وعبّر عن ذلك في قصائده التي تحتفي بالطبيعة والتأمل الداخلي.
الهدوئية في الفن والأدب
تركت الهدوئية بصماتها في عالم الفن والأدب، حيث استوحى العديد من الفنانين والكتاب من مبادئها وأفكارها. يمكن ملاحظة تأثيرها في:
- الأدب: ظهرت العديد من الشخصيات الأدبية التي تبنت أفكارًا هدئوية في أعمالهم. على سبيل المثال، يمكن رؤية تأثير الهدوئية في بعض أعمال مدام جايون، التي كتبت العديد من الكتب والرسائل حول الحياة الروحية والصلاة الداخلية. كما يمكن ملاحظة تأثيرها في بعض أعمال فرانسوا فينيلون (François Fénelon)، وهو أسقف كاثوليكي فرنسي كان مدافعًا عن مدام جايون وأفكارها.
- الفن: على الرغم من أن الهدوئية لم تنتج مدرسة فنية متميزة، إلا أن بعض الفنانين استوحوا من مبادئها لإنشاء أعمال تعبر عن السلام الداخلي والهدوء الروحي. يمكن رؤية ذلك في بعض اللوحات التي تصور المناظر الطبيعية الهادئة أو الشخصيات المتأملة.
الهدوئية اليوم
على الرغم من أنها لم تعد حركة واسعة الانتشار، إلا أن الهدوئية لا تزال تمثل مصدر إلهام لبعض الأشخاص الذين يبحثون عن طريق روحي بسيط ومباشر. يمكن العثور على أفكار مماثلة للهدوئية في بعض التقاليد الصوفية الشرقية، مثل الزن (Zen) واليوغا (Yoga)، والتي تركز على الصمت والتأمل الداخلي والتخلي عن الذات.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تكون الهدوئية بمثابة تذكير بأهمية التوازن بين العمل الروحي والعمل الدنيوي. يجب على الإنسان أن يسعى إلى تحقيق الكمال الروحي، ولكن يجب عليه أيضًا أن يفي بواجباته الدينية والاجتماعية. لا ينبغي أن يؤدي التركيز المفرط على السلبية والتخلي عن الذات إلى إهمال المسؤوليات الدنيوية أو اللامبالاة بمشاكل العالم.
خاتمة
الهدوئية هي حركة روحية مسيحية ظهرت في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وتتميز بالتركيز على السلبية التامة والتخلي عن الذات والصلاة الداخلية. على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليها والإدانة الرسمية من قبل الكنيسة، كان للهدوئية تأثير كبير على الفكر الروحي المسيحي، وساهمت في إحياء الاهتمام بالصلاة الداخلية والتأمل الصامت. لا تزال الهدوئية تمثل مصدر إلهام لبعض الأشخاص الذين يبحثون عن طريق روحي بسيط ومباشر، وتذكرنا بأهمية التوازن بين العمل الروحي والعمل الدنيوي.