<![CDATA[
السياق التاريخي واللاهوتي
في أوائل القرن السادس عشر، شهدت الإصلاح البروتستانتي انقسامًا عميقًا بشأن طبيعة القربان المقدس. بينما اتفق مارتن لوثر وأولريخ زوينجلي على العديد من القضايا الحاسمة المتعلقة بالخلاص بالإيمان وحده وسلطة الكتاب المقدس، إلا أنهما اختلفا اختلافًا جوهريًا حول معنى عشاء الرب. رأى زوينجلي أن الخبز والخمر يمثلان ببساطة جسد المسيح ودمه بشكل رمزي، بينما أصر لوثر على أن جسد المسيح ودمه موجودان حقًا “في ومع وتحت” الخبز والخمر. كان لهذا الخلاف اللاهوتي تداعيات بعيدة المدى على وحدة الحركة الإصلاحية.
لقد كان موقف لوثر مدفوعًا بقراءته الحرفية للنصوص الكتابية، وخاصة كلمات المسيح في تأسيس القربان المقدس: “هذا هو جسدي… هذا هو دمي”. لقد اعتقد أن كلمات المسيح يجب أن تؤخذ بمعناها الظاهر، وأن إنكار الحضور الحقيقي يعني إنكار سلطان الكتاب المقدس نفسه. علاوة على ذلك، كان لوثر قلقًا بشأن التداعيات العملية لإنكار الحضور الحقيقي، معتقدًا أنه قلل من أهمية القربان المقدس كوسيلة نعمة ومشاركة حقيقية في جسد المسيح.
في المقابل، رأى زوينجلي أن كلمات المسيح يجب أن تُفهم بشكل مجازي، وأن القربان المقدس هو تذكير رمزي بموت المسيح الكفاري. لقد جادل بأن فهمًا حرفيًا للحضور الحقيقي يتعارض مع طبيعة جسد المسيح، الذي صعد إلى السماء ويجلس على يمين الله. علاوة على ذلك، اعتقد زوينجلي أن الحضور الحقيقي يؤدي إلى نوع من أكل لحوم البشر، وهو أمر بغيض عقليًا وروحيًا.
الحجج الرئيسية في الاعتراف
في “اعتراف بشأن عشاء المسيح”، يقدم لوثر عددًا من الحجج لدعم موقفه بشأن الحضور الحقيقي. وتشمل هذه الحجج:
- القراءة الحرفية للكتاب المقدس: يجادل لوثر بأن كلمات المسيح في تأسيس القربان المقدس واضحة ولا لبس فيها، ويجب أن تؤخذ بمعناها الظاهر. ويرفض تفسيرات زوينجلي المجازية باعتبارها تعسفية وغير مدعومة بالنص الكتابي.
- وحدة شخص المسيح: يؤكد لوثر على الوحدة غير القابلة للانفصال بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية للمسيح. إنه يعتقد أن هذه الوحدة تسمح لجسد المسيح ودمه بأن يكونا حاضرين في كل مكان، بما في ذلك في سر القربان المقدس.
- قوة كلمة الله: يشدد لوثر على قوة كلمة الله في جلب ما تعلنه. إنه يعتقد أنه عندما يقول المسيح “هذا هو جسدي”، فإن كلماته تخلق واقعًا جديدًا، مما يجعل جسده حاضرًا حقًا في الخبز والخمر.
- شهادة الكنيسة الأولى: يجادل لوثر بأن الكنيسة المسيحية الأولى فهمت باستمرار القربان المقدس على أنه مشاركة حقيقية في جسد المسيح ودمه. ويرفض الادعاء بأن الحضور الحقيقي هو اختراع لاحق.
- الفوائد العملية للحضور الحقيقي: يؤكد لوثر على الفوائد الروحية التي يجلبها الحضور الحقيقي للمؤمنين. إنه يعتقد أن المشاركة في جسد المسيح ودمه تقوي الإيمان، وتغفر الخطايا، وتوحد المؤمنين مع المسيح ومع بعضهم البعض.
نقد الاعتراضات
يتناول لوثر أيضًا الاعتراضات الشائعة على الحضور الحقيقي، مثل:
- الاعتراض القائم على المنطق: يرد لوثر على الاعتراض القائل بأن الحضور الحقيقي مستحيل منطقيًا بالقول إن الله قادر على فعل ما يتجاوز فهمنا المحدود. إنه يؤكد على أهمية الإيمان بأسرار الله حتى عندما تتحدى عقولنا.
- الاعتراض القائم على الكتاب المقدس: يرد لوثر على الاعتراضات الكتابية من خلال تقديم تفسيرات بديلة للنصوص ذات الصلة. إنه يجادل بأن هذه النصوص لا تستبعد الحضور الحقيقي، ويمكن فهمها في الواقع على أنها تدعمه.
- الاعتراض القائم على الحس السليم: يرد لوثر على الاعتراض القائل بأن الحضور الحقيقي يتعارض مع الحس السليم بالقول إن الحواس يمكن أن تكون مضللة. إنه يؤكد على أهمية الثقة بكلمة الله بدلاً من الاعتماد على فهمنا المحدود للعالم.
تأثير وأهمية الاعتراف
كان لـ “اعتراف بشأن عشاء المسيح” تأثير كبير على اللاهوت اللوثري. لقد أصبح بيانًا معياريًا للعقيدة اللوثرية بشأن القربان المقدس، ويظل ذا أهمية حتى اليوم. لقد ساعدت رسالة لوثر في الحفاظ على الفهم التقليدي للقربان المقدس كوسيلة نعمة ومشاركة حقيقية في جسد المسيح ودمه. كما ساعدت في تحديد اللوثرية عن التقاليد البروتستانتية الأخرى، مثل الكالفينية، التي تتبنى نظرة رمزية أكثر للقربان المقدس.
بالإضافة إلى تأثيره اللاهوتي، كان لـ “اعتراف بشأن عشاء المسيح” أيضًا تداعيات عملية على ممارسة القربان المقدس في الكنائس اللوثرية. لقد أكد لوثر على أهمية الاحتفال بالقربان المقدس بشكل منتظم وتقديمه لجميع المؤمنين الذين تم فحصهم بشكل صحيح. كما أكد على أهمية الإعداد المناسب للقربان المقدس، بما في ذلك التوبة والإيمان.
لا يزال “اعتراف بشأن عشاء المسيح” وثيقة ذات صلة اليوم للمسيحيين المهتمين بفهم الكتاب المقدس لسر القربان المقدس. إنه يقدم دفاعًا شاملاً عن الحضور الحقيقي، ويشجع المؤمنين على تقدير الفوائد الروحية التي تأتي من المشاركة في جسد المسيح ودمه.
خاتمة
يمثل “اعتراف بشأن عشاء المسيح” لمارتن لوثر دفاعًا قويًا عن الحضور الحقيقي للمسيح في سر القربان المقدس. من خلال حججه الكتابية واللاهوتية، يسعى لوثر إلى الحفاظ على الفهم التقليدي لهذا السر المقدس، مع التأكيد على أهميته كوسيلة نعمة ومشاركة حقيقية في جسد المسيح ودمه. على الرغم من الجدل الذي أثاره في عصره، لا يزال هذا العمل ذا صلة اليوم، حيث يقدم رؤى قيمة حول طبيعة القربان المقدس وتأثيره على حياة المؤمنين.