مقدمة
المسيحية القوطية مصطلح يشير إلى الديانة المسيحية التي اعتنقها القوط، وأحيانًا القبائل الجرمانية الشرقية الأخرى مثل الغبيديون والوندال والبرغنديون، الذين ربما اعتنقوا المسيحية الأريوسية. لعبت المسيحية القوطية دورًا حاسمًا في تاريخ القوط، حيث ساهمت في تشكيل هويتهم الثقافية والسياسية، وأثرت على علاقاتهم بالإمبراطورية الرومانية.
الخلفية التاريخية
بدأ انتشار المسيحية بين القوط في القرن الثالث الميلادي، عندما بدأت القبائل القوطية بالاستقرار على حدود الإمبراطورية الرومانية. أسر القوط العديد من المسيحيين خلال غزواتهم، وكان هؤلاء الأسرى غالبًا ما ينشرون إيمانهم بين القوط. لعبت التجارة أيضًا دورًا في انتشار المسيحية، حيث كان التجار المسيحيون يسافرون إلى الأراضي القوطية ويشاركون معتقداتهم مع السكان المحليين.
في منتصف القرن الرابع الميلادي، قام الأسقف أولفيلا بدور محوري في تحويل القوط إلى المسيحية. كان أولفيلا قوطيًا تم تعيينه أسقفًا من قبل الإمبراطور قسطنطينيوس الثاني. قام أولفيلا بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القوطية، مما جعل الكتاب المقدس في متناول القوط الذين لم يكونوا يتحدثون اللاتينية أو اليونانية. يُعتبر هذا العمل إنجازًا لغويًا وثقافيًا هائلاً، حيث ساهم في توحيد اللغة القوطية المكتوبة ونشر المسيحية بين القوط.
اعتنق القوط المسيحية الأريوسية، وهي عقيدة مسيحية ترى أن يسوع المسيح مخلوق من قبل الله الآب، وبالتالي ليس مساويًا له في الجوهر. كانت الأريوسية شائعة في الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع الميلادي، لكنها أُدانت لاحقًا باعتبارها هرطقة من قبل مجمع نيقية. ومع ذلك، استمر القوط في التمسك بالأريوسية لعدة قرون.
أولفيلا ودوره في نشر المسيحية بين القوط
كما ذكرنا، يعتبر أولفيلا شخصية محورية في تاريخ المسيحية القوطية. لم يقتصر دوره على ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القوطية، بل قام أيضًا بتنظيم الكنيسة القوطية وتعليم القوط العقيدة المسيحية. كان أولفيلا يتمتع بشخصية كاريزماتية وقدرة على الإقناع، مما ساعده على كسب تأييد القوط وتحويلهم إلى المسيحية.
يُعتقد أن أولفيلا قام بحذف بعض الأجزاء من الكتاب المقدس التي تتعلق بالحرب والعنف، وذلك لتجنب إثارة القوط المحاربين. هذا يشير إلى أن أولفيلا كان يدرك تمامًا الثقافة القوطية وحاول تكييف المسيحية لتناسب قيمهم ومعتقداتهم.
تأثير المسيحية القوطية على الثقافة القوطية
كان للمسيحية القوطية تأثير عميق على الثقافة القوطية. ساهمت المسيحية في توحيد القوط وتعزيز هويتهم الثقافية. كما أثرت المسيحية على الفن والأدب القوطي. على سبيل المثال، تم العثور على العديد من القطع الأثرية المسيحية في المواقع القوطية، مثل الصلبان والمجوهرات الدينية.
لعبت المسيحية أيضًا دورًا في السياسة القوطية. كان الملوك القوط غالبًا ما يستخدمون الدين لتعزيز سلطتهم وتبرير حكمهم. على سبيل المثال، ادعى الملوك القوط أنهم يحكمون بإرادة الله وأنهم مسؤولون عن حماية الكنيسة.
المسيحية القوطية والإمبراطورية الرومانية
كانت العلاقة بين المسيحية القوطية والإمبراطورية الرومانية معقدة ومتغيرة. في البداية، كان الرومان ينظرون إلى المسيحية القوطية بعين الريبة، حيث كانوا يرون أنها تهديد لسلطتهم. ومع ذلك، مع مرور الوقت، بدأ الرومان في رؤية المسيحية كوسيلة لتهدئة القوط ودمجهم في الإمبراطورية.
في بعض الأحيان، كان الرومان يدعمون الكنيسة القوطية ماليًا وسياسيًا. في أحيان أخرى، كانوا يضطهدون المسيحيين القوط. على سبيل المثال، في القرن الخامس الميلادي، اضطهد الإمبراطور الروماني فالنس المسيحيين الأريوسيين، بمن فيهم القوط.
نهاية المسيحية القوطية
بدأ تراجع المسيحية القوطية في القرن السادس الميلادي، عندما بدأ القوط في التحول إلى المسيحية النيقية، وهي العقيدة المسيحية التي كانت سائدة في الإمبراطورية الرومانية. كان التحول إلى المسيحية النيقية مدفوعًا بعدة عوامل، بما في ذلك الضغط من الكنيسة الرومانية والجاذبية المتزايدة للثقافة الرومانية.
بحلول القرن الثامن الميلادي، اختفت المسيحية الأريوسية تمامًا من أوروبا الغربية. ومع ذلك، استمرت بعض المجتمعات القوطية في ممارسة المسيحية الأريوسية في شبه جزيرة القرم حتى القرن السادس عشر الميلادي.
إرث المسيحية القوطية
على الرغم من أنها لم تعد موجودة كدين مستقل، إلا أن المسيحية القوطية تركت إرثًا دائمًا. ساهمت المسيحية القوطية في تشكيل الهوية الثقافية والسياسية للقوط، وأثرت على علاقاتهم بالإمبراطورية الرومانية. كما ساهمت المسيحية القوطية في تطوير اللغة القوطية المكتوبة، وذلك من خلال ترجمة أولفيلا للكتاب المقدس.
تعتبر المسيحية القوطية مثالًا على كيفية تكييف الدين مع الثقافات المختلفة. أظهر أولفيلا كيف يمكن تكييف المسيحية لتناسب قيم ومعتقدات القوط، وكيف يمكن استخدام الدين لتوحيد الناس وتعزيز هويتهم الثقافية.
خاتمة
المسيحية القوطية هي تعبير فريد عن المسيحية تطور بين القوط، ولعب دورًا هامًا في تاريخهم وثقافتهم. من خلال شخصية أولفيلا المؤثرة وترجمته للكتاب المقدس، تمكن القوط من اعتناق المسيحية مع الحفاظ على هويتهم. على الرغم من زوالها في نهاية المطاف، فإن المسيحية القوطية تظل شهادة على قدرة الدين على التكيف والتأثير في مسارات التاريخ.