مقدمة
يُعدّ مثل الزارع، أو مثل البذار، واحدًا من أشهر الأمثال التي وردت في الأناجيل الإزائية في العهد الجديد، وهي: إنجيل متى (إصحاح 13: 1-23)، وإنجيل مرقس (إصحاح 4: 1-20)، وإنجيل لوقا (إصحاح 8: 4-15). كما يوجد ذكر له في إنجيل توما غير القانوني. يروي هذا المثل قصة زارع يخرج ليزرع، وتسقط بذوره في أنواع مختلفة من الأرض، ولكل نوع استجابة مختلفة.
نص المثل
فيما يلي نص المثل كما ورد في إنجيل متى (إصحاح 13: 3-9):
«هُوَذَا الزَّارِعُ قَدْ خَرَجَ لِيَزْرَعَ. وَفِيمَا هُوَ يَزْرَعُ سَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الطَّرِيقِ، فَجَاءَتِ الطُّيُورُ وَأَكَلَتْهُ. وَسَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الأَمَاكِنِ الْمُحْجِرَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لَهُ تُرْبَةٌ كَثِيرَةٌ، فَنَبَتَ حَالاً إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُمْقُ تُرْبَةٍ. وَلَكِنْ لَمَّا شَرَقَتِ الشَّمْسُ احْتَرَقَ، وَإِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَصْلٌ جَفَّ. وَسَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الشَّوْكِ، فَطَلَعَ الشَّوْكُ وَخَنَقَهُ. وَسَقَطَ بَعْضٌ عَلَى الأَرْضِ الْجَيِّدَةِ فَأَعْطَى ثَمَراً: بَعْضٌ مِئَةً وَبَعْضٌ سِتِّينَ وَبَعْضٌ ثَلاَثِينَ. مَنْ لَهُ أُذُنَانِ لِلسَّمْعِ فَلْيَسْمَعْ».
تفسير المثل
يشرح يسوع المسيح نفسه معنى المثل لتلاميذه، كما هو مذكور في الأناجيل. يمثل الزارع هنا المبشر بكلمة الله، والبذور تمثل الكلمة نفسها، بينما تمثل أنواع التربة المختلفة أنواعًا مختلفة من الناس واستجاباتهم للكلمة.
- البذور التي سقطت على الطريق: تمثل الأشخاص الذين يسمعون الكلمة ولكنهم لا يفهمونها، فيأتي الشرير (الشيطان) ويخطفها من قلوبهم.
- البذور التي سقطت على الأماكن المحجرة: تمثل الأشخاص الذين يسمعون الكلمة بفرح، ولكن ليس لديهم جذر في أنفسهم، وعندما يأتي الضيق أو الاضطهاد بسبب الكلمة، فإنهم يرتدون.
- البذور التي سقطت على الشوك: تمثل الأشخاص الذين يسمعون الكلمة، ولكن هموم هذا العالم وغرور الغنى يخنقان الكلمة، فتصبح بلا ثمر.
- البذور التي سقطت على الأرض الجيدة: تمثل الأشخاص الذين يسمعون الكلمة ويفهمونها ويقبلونها بقلوب طاهرة، فيثمرون: بعضهم مئة، وبعضهم ستين، وبعضهم ثلاثين.
أهمية المثل
يحمل مثل الزارع أهمية كبيرة في المسيحية، فهو يسلط الضوء على عدة جوانب مهمة:
1. مسؤولية السامع: يوضح المثل أن الاستماع إلى كلمة الله ليس كافيًا، بل يجب على السامع أن يكون لديه قلب مستعد لقبولها وفهمها والعمل بها. إن نوعية التربة (القلب) هي التي تحدد ما إذا كانت الكلمة ستثمر أم لا.
2. تحديات نشر الكلمة: يقر المثل بأن نشر كلمة الله ليس بالأمر السهل، وأن هناك العديد من العوائق التي قد تمنع الكلمة من الوصول إلى القلوب أو من إثمارها، مثل عدم الفهم، والاضطهاد، وهموم الدنيا.
3. قوة الكلمة: على الرغم من وجود العديد من العوائق، إلا أن المثل يؤكد على قوة كلمة الله وقدرتها على إحداث تغيير في حياة الناس، إذا وجدت القلب المستعد.
4. التنوع في الثمر: يوضح المثل أن الثمر الذي ينتج عن سماع كلمة الله قد يختلف من شخص لآخر، ولكن المهم هو أن يكون هناك ثمر، حتى لو كان بكمية أقل من غيره. فكل شخص يثمر بحسب قدرته واستعداده.
تطبيقات معاصرة
لا يزال مثل الزارع ذا صلة كبيرة في العصر الحديث، حيث يمكن تطبيقه على مختلف جوانب الحياة:
1. التعليم: يمكن تطبيق المثل على عملية التعلم، حيث يمثل المعلم الزارع، والمعلومات البذور، والطلاب أنواع التربة المختلفة. يجب على المعلم أن يسعى لتقديم المعلومات بطريقة واضحة ومفهومة، وعلى الطلاب أن يكونوا مستعدين لتقبلها وفهمها وتطبيقها.
2. العلاقات: يمكن تطبيق المثل على العلاقات الإنسانية، حيث يمثل التواصل البذور، والعلاقات أنواع التربة المختلفة. يجب على الأفراد أن يكونوا منفتحين وصادقين في تواصلهم، وأن يكونوا مستعدين لتقبل الآخرين وفهمهم ودعمهم.
3. النمو الشخصي: يمكن تطبيق المثل على النمو الشخصي، حيث تمثل الأفكار والمعتقدات البذور، والعقل أنواع التربة المختلفة. يجب على الأفراد أن يكونوا على استعداد لتحدي أفكارهم ومعتقداتهم القديمة، وتبني أفكار ومعتقدات جديدة تساعدهم على النمو والتطور.
أمثال أخرى مشابهة
هناك العديد من الأمثال الأخرى في الكتاب المقدس التي تشبه مثل الزارع في مضمونها ورسالتها، مثل:
- مثل حبة الخردل: (متى 13: 31-32) يوضح هذا المثل كيف يمكن لشيء صغير (حبة الخردل) أن ينمو ليصبح شيئًا كبيرًا (شجرة)، مما يرمز إلى نمو ملكوت الله.
- مثل الخميرة: (متى 13: 33) يوضح هذا المثل كيف يمكن لشيء صغير (الخميرة) أن يؤثر على شيء كبير (العجين)، مما يرمز إلى تأثير ملكوت الله على العالم.
- مثل الشبكة: (متى 13: 47-50) يوضح هذا المثل كيف تجمع الشبكة أنواعًا مختلفة من السمك (جيد ورديء)، مما يرمز إلى أن ملكوت الله يشمل جميع أنواع الناس.
الرسائل الرئيسية من المثل
يمكن استخلاص العديد من الرسائل الرئيسية من مثل الزارع:
- أهمية الاستعداد الداخلي: يركز المثل على أهمية الاستعداد الداخلي للفرد لاستقبال كلمة الله أو أي معلومة أو فكرة جديدة. القلب المستعد هو الذي يسمح للبذرة بالنمو والإثمار.
- التحديات المتوقعة: يُظهر المثل أن طريق الاستماع والتطبيق ليس مفروشًا بالورود، بل توجد تحديات وعقبات مثل الإغراءات والاضطهاد والهموم الدنيوية.
- قوة الإصرار والمثابرة: على الرغم من التحديات، يُشجع المثل على الإصرار والمثابرة في السعي لفهم كلمة الله وتطبيقها، لأن الأرض الجيدة قادرة على إنتاج ثمار وفيرة.
- التأثير المتفاوت: يُقر المثل بأن تأثير الكلمة قد يختلف من شخص لآخر، ولكن الأهم هو وجود تأثير إيجابي مهما كان حجمه.
خاتمة
مثل الزارع هو مثل عميق وغني بالمعاني، يحمل رسالة مهمة عن أهمية الاستعداد الداخلي لسماع كلمة الله وفهمها وتطبيقها. كما يسلط الضوء على التحديات التي قد تواجه المبشرين بالكلمة، ويشجع على الإصرار والمثابرة في السعي لنشرها. إن فهم هذا المثل وتطبيقه يمكن أن يساعدنا على النمو الروحي والشخصي، وعلى أن نكون أكثر فعالية في نشر كلمة الله في العالم.