نشأته وتعليمه
نشأ جون رومر في بيئة أكاديمية محفزة، حيث كان والده، ميلتون رومر، طبيبًا وباحثًا في مجال الصحة العامة. هذا التأثير المبكر لعالم الطب والبحث العلمي ساهم بلا شك في فضول رومر الفكري ورغبته في فهم الأنظمة المعقدة. حصل رومر على درجة البكالوريوس في الرياضيات من جامعة واشنطن في عام 1966، مما يدل على اهتمامه المبكر بالتفكير المنطقي والكمي. ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا، بيركلي، حيث حصل على درجة الدكتوراه في الرياضيات عام 1969. خلال فترة وجوده في بيركلي، تعرض رومر للأفكار الاقتصادية والسياسية الراديكالية التي كانت سائدة في الحرم الجامعي في ذلك الوقت. هذا التعرض دفعه إلى إعادة توجيه تركيزه من الرياضيات البحتة إلى الاقتصاد، بهدف استخدام الأدوات الرياضية لتحليل القضايا الاجتماعية والاقتصادية الملحة.
مسيرته المهنية
بدأ جون رومر مسيرته الأكاديمية في جامعة كاليفورنيا، ديفيس، حيث عمل أستاذاً للاقتصاد من عام 1971 إلى عام 1982. خلال هذه الفترة، بدأ في تطوير أفكاره حول الاقتصاد الماركسي الجديد، والذي سعى إلى معالجة أوجه القصور في التحليل الماركسي التقليدي من خلال دمج الأدوات التحليلية الحديثة من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد ونظرية الألعاب. في عام 1982، انتقل رومر إلى جامعة كاليفورنيا، ديفيس، حيث بقي حتى عام 1996. ثم انضم إلى جامعة ييل كأستاذ للعلوم السياسية والاقتصاد، وهو المنصب الذي شغله حتى تقاعده. على مر السنين، شغل رومر أيضًا مناصب زائرة في العديد من المؤسسات المرموقة، بما في ذلك جامعة هارفارد، وجامعة كامبريدج، والمعهد الأوروبي الجامعي في فلورنسا.
أعماله وإسهاماته
يتميز عمل جون رومر بتنوعه وابتكاره. لقد قدم مساهمات كبيرة في مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك العدالة التوزيعية، والاقتصاد الماركسي الجديد، والاقتصاد السياسي، ونظرية الألعاب. من أبرز أعماله:
- “نظرية عامة للاستغلال والطبقة” (A General Theory of Exploitation and Class، 1982): يقدم هذا الكتاب نظرية رياضية صارمة للاستغلال الطبقي، مستوحاة من عمل كارل ماركس، ولكنه يستخدم أدوات من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد ونظرية الألعاب. يجادل رومر بأن الاستغلال ينشأ ليس فقط من ملكية وسائل الإنتاج، ولكن أيضًا من التوزيع غير المتكافئ للمهارات والمواهب.
- “المساواة في الفرص” (Equality of Opportunity، 1998): يستكشف هذا الكتاب مفهوم المساواة في الفرص وكيف يمكن تحقيقه في الممارسة العملية. يقترح رومر تعريفًا للمساواة في الفرص يركز على تعويض الأفراد عن الظروف التي ليست من مسؤوليتهم، مثل خلفيتهم العائلية أو ميولهم الوراثية.
- “المسؤولية والرفاهية” (Responsibility and Welfare، 1993): يتناول هذا الكتاب العلاقة بين المسؤولية الفردية والرفاهية الاجتماعية. يجادل رومر بأن المجتمع يجب أن يسعى إلى توفير شبكة أمان للأفراد الذين يعانون من سوء الحظ، ولكن يجب أيضًا محاسبة الأفراد على خياراتهم وقراراتهم.
- “العدالة والاشتراكية” (Justice and Socialism، 1994): يقدم هذا الكتاب دفاعًا عن الاشتراكية كنموذج اجتماعي عادل ومستدام. يجادل رومر بأن الاشتراكية يمكن أن تحقق قدرًا أكبر من المساواة والرفاهية من الرأسمالية، مع الحفاظ أيضًا على الحريات الفردية.
- “الرأسمالية ضد الاشتراكية” (Capitalism, Socialism, and Democracy، 2016): يقارن هذا الكتاب بين الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية، ويستكشف نقاط القوة والضعف في كل نظام. يجادل رومر بأن الديمقراطية الاجتماعية، التي تجمع بين الرأسمالية وتنظيم الدولة القوي والشبكة الاجتماعية، هي أفضل وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية والرخاء الاقتصادي.
العدالة التوزيعية
يُعد عمل جون رومر في مجال العدالة التوزيعية من أهم مساهماته في الفكر الاقتصادي والسياسي. لقد طور رومر إطارًا تحليليًا صارمًا لتقييم العدالة التوزيعية، يعتمد على مفهوم “المساواة في الفرص”. يجادل رومر بأن المجتمع العادل يجب أن يسعى إلى تعويض الأفراد عن الظروف التي ليست من مسؤوليتهم، مثل خلفيتهم العائلية أو ميولهم الوراثية. ومع ذلك، يجب أيضًا محاسبة الأفراد على خياراتهم وقراراتهم. يقترح رومر استخدام الأدوات الاقتصادية والرياضية لتحديد مدى تأثير الظروف غير المتكافئة على نتائج الأفراد، ثم تصميم السياسات التي تهدف إلى تخفيف هذه التأثيرات. على سبيل المثال، قد تشمل هذه السياسات توفير تعليم عالي الجودة لجميع الأطفال، بغض النظر عن خلفيتهم الاجتماعية والاقتصادية، أو فرض ضرائب تصاعدية على الدخل والثروة لتمويل برامج الرعاية الاجتماعية.
الاقتصاد الماركسي الجديد
يُعد جون رومر أحد الشخصيات الرائدة في الاقتصاد الماركسي الجديد، وهو اتجاه فكري يسعى إلى معالجة أوجه القصور في التحليل الماركسي التقليدي من خلال دمج الأدوات التحليلية الحديثة من الاقتصاد الكلاسيكي الجديد ونظرية الألعاب. يرى رومر أن الاقتصاد الماركسي التقليدي يعاني من عدة مشاكل، بما في ذلك اعتماده على نظرية قيمة العمل المثيرة للجدل، وإهماله لأهمية الحوافز الفردية، وعدم قدرته على تفسير التغيرات التكنولوجية والابتكارات. يقترح رومر استبدال نظرية قيمة العمل بنظرية أكثر دقة لتحديد الأسعار تعتمد على العرض والطلب. كما يدعو إلى إيلاء المزيد من الاهتمام لدور الحوافز الفردية في تشكيل السلوك الاقتصادي. بالإضافة إلى ذلك، يؤكد رومر على أهمية فهم كيفية تأثير التغيرات التكنولوجية والابتكارات على توزيع الدخل والثروة.
نظرية الألعاب والاقتصاد السياسي
يستخدم جون رومر نظرية الألعاب على نطاق واسع لتحليل القضايا الاقتصادية والسياسية. لقد استخدم نظرية الألعاب لدراسة مجموعة متنوعة من الموضوعات، بما في ذلك المساومة الجماعية، والمساهمة في السلع العامة، وتشكيل التحالفات السياسية. أحد أبرز تطبيقات نظرية الألعاب في عمل رومر هو تحليله للصراع الطبقي. يرى رومر أن الصراع الطبقي ليس مجرد صراع على الموارد المادية، ولكنه أيضًا صراع على السلطة والنفوذ. يستخدم رومر نماذج نظرية الألعاب لتحليل كيفية تفاعل الطبقات المختلفة في المجتمع مع بعضها البعض، وكيف يمكن لهذه التفاعلات أن تؤدي إلى نتائج مختلفة، مثل الثورة أو الإصلاح أو الاستقرار.
آراءه السياسية
يصف جون رومر نفسه بأنه اشتراكي ديمقراطي. يعتقد أن الرأسمالية لديها العديد من أوجه القصور، بما في ذلك ميلها إلى إنتاج قدر كبير من عدم المساواة، وعدم قدرتها على توفير السلع العامة بشكل كاف، وإسهامها في التدهور البيئي. ومع ذلك، يعتقد أيضًا أن الاشتراكية التقليدية، التي تنطوي على ملكية الدولة لوسائل الإنتاج، ليست حلاً قابلاً للتطبيق. بدلاً من ذلك، يفضل رومر نموذجًا للديمقراطية الاجتماعية، يجمع بين الرأسمالية وتنظيم الدولة القوي والشبكة الاجتماعية. يرى رومر أن هذا النموذج يمكن أن يحقق قدرًا أكبر من المساواة والرفاهية من الرأسمالية، مع الحفاظ أيضًا على الحريات الفردية والحوافز الاقتصادية.
الجوائز والتكريمات
حصل جون رومر على العديد من الجوائز والتكريمات طوال حياته المهنية، تقديراً لمساهماته البارزة في الاقتصاد والفلسفة السياسية. تشمل هذه الجوائز:
- زمالة جمعية الاقتصاد القياسي
- زمالة الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم
- جائزة ريكاردو من الرابطة الأوروبية للاقتصاد السياسي
تأثيره وإرثه
لقد كان لعمل جون رومر تأثير كبير على مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك الاقتصاد، والفلسفة السياسية، والعلوم السياسية. لقد ساهم في تطوير أدوات تحليلية جديدة لفهم العدالة التوزيعية، والصراع الطبقي، والاقتصاد السياسي. لقد ألهم عمله أيضًا العديد من الباحثين وصانعي السياسات حول العالم. يظل جون رومر شخصية مؤثرة في النقاش حول كيفية بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافًا.
خاتمة
جون رومر هو اقتصادي وفيلسوف سياسي بارز، يُعرف بعمله الرائد في مجال العدالة التوزيعية، والاقتصاد الماركسي الجديد، وتطبيقات نظرية الألعاب على الاقتصاد السياسي. لقد قدم مساهمات كبيرة في فهمنا للعدالة الاجتماعية، والصراع الطبقي، ودور الدولة في الاقتصاد. يظل عمله ذا صلة كبيرة اليوم، حيث نسعى إلى بناء مجتمع أكثر عدلاً وإنصافًا في عالم يزداد تعقيدًا وتغيرًا.