<![CDATA[
مقدمة
الاختيار المشروط، في اللاهوت المسيحي، هو الاعتقاد بأن الله يختار للخلاص الأبدي أولئك الذين يعلم مسبقًا أنهم سيؤمنون بالمسيح ويستمرون في الإيمان حتى النهاية. بمعنى آخر، يعتمد اختيار الله للخلاص على استجابته المتوقعة للإنجيل. هذا المفهوم يختلف عن الاختيار غير المشروط، الذي يؤكد أن اختيار الله للخلاص يستند فقط إلى إرادته واختياره المطلق، بغض النظر عن أي صفات أو أفعال متوقعة من الأفراد.
أصول المفهوم وتطوره
تعود جذور فكرة الاختيار المشروط إلى العصور الأولى للمسيحية، حيث ناقش اللاهوتيون مسألة العلاقة بين السيادة الإلهية وحرية الإنسان. على مر القرون، تطورت هذه المناقشات، وظهرت وجهات نظر مختلفة حول كيفية فهم اختيار الله للخلاص.
في القرن الخامس، جادل بيلاجيوس بأن الإنسان يمتلك القدرة الكاملة على اختيار الخير والشر، وأن الخلاص يعتمد بالكامل على جهود الإنسان. رفض أوغسطينوس هذا الرأي، مؤكدًا على ضرورة نعمة الله للخلاص، وشدد على أن الله هو الذي يبادر بالخلاص، وليس الإنسان. ومع ذلك، لم يطور أوغسطينوس مفهومًا كاملاً للاختيار المشروط أو غير المشروط.
خلال فترة الإصلاح البروتستانتي في القرن السادس عشر، عادت قضية الاختيار إلى الظهور بقوة. أكد مارتن لوثر وجان كالفن على سيادة الله في الخلاص، لكنهما اختلفا في تفاصيل فهمهما للاختيار. طور كالفن مفهوم الاختيار غير المشروط، الذي أصبح فيما بعد سمة مميزة للاهوت الكالفيني. في المقابل، تبنى أرمينيوس، وهو لاهوتي هولندي، وجهة نظر أكثر مشروطية، مؤكدًا على أهمية حرية الإنسان في قبول أو رفض نعمة الله.
النقاط الرئيسية للاختيار المشروط
- المعرفة المسبقة لله: يؤمن أصحاب هذا الرأي بأن الله يعلم مسبقًا من سيؤمن ومن لن يؤمن. هذه المعرفة المسبقة ليست سببًا للاختيار، بل هي الأساس الذي يستند إليه الله في اختياره.
- حرية الإرادة: يشدد الاختيار المشروط على أن الإنسان يتمتع بحرية حقيقية في قبول أو رفض نعمة الله. لا يجبر الله أحدًا على الإيمان، بل يدعو الجميع إلى التوبة والإيمان.
- الإيمان كشرط: الإيمان بالمسيح هو الشرط الضروري للخلاص. يختار الله أولئك الذين يعلم أنهم سيؤمنون، ويمنحهم النعمة اللازمة للاستمرار في الإيمان حتى النهاية.
- المسؤولية الإنسانية: يعتبر الاختيار المشروط أن الإنسان مسؤول عن استجابته للإنجيل. إذا رفض شخص ما الإيمان، فإن ذلك يرجع إلى اختياره الحر، وليس إلى قرار مسبق من الله.
الحجج المؤيدة للاختيار المشروط
يقدم أنصار الاختيار المشروط عددًا من الحجج الكتابية واللاهوتية لدعم وجهة نظرهم:
- الآيات التي تتحدث عن الدعوة العامة: يشيرون إلى الآيات التي تدعو جميع الناس إلى التوبة والإيمان، مثل يوحنا 3: 16 و 1 تيموثاوس 2: 4. يرون أن هذه الآيات تشير إلى أن الله يريد أن يخلص جميع الناس، وأن الخلاص متاح لكل من يؤمن.
- الآيات التي تتحدث عن المسؤولية الإنسانية: يؤكدون على الآيات التي تشدد على مسؤولية الإنسان عن قراراته، مثل تثنية 30: 19 وحزقيال 18: 30. يرون أن هذه الآيات تشير إلى أن الإنسان يتمتع بحرية حقيقية في اختيار مصيره الأبدي.
- الآيات التي تتحدث عن فقدان الخلاص: يستشهدون بالآيات التي تحذر من فقدان الخلاص، مثل عبرانيين 6: 4-6 و 2 بطرس 2: 20-22. يرون أن هذه الآيات تشير إلى أن الإيمان الحقيقي يمكن أن يزول، وأن الخلاص ليس مضمونًا بشكل مطلق.
- العدالة الإلهية: يجادلون بأن الاختيار المشروط يتماشى مع العدالة الإلهية، حيث أن الله يكافئ أولئك الذين يؤمنون ويعاقب أولئك الذين يرفضون. يرون أن الاختيار غير المشروط يبدو غير عادل، حيث أن الله يختار البعض للخلاص والبعض الآخر للهلاك دون أي اعتبار لأفعالهم.
اعتراضات على الاختيار المشروط
تثار العديد من الاعتراضات على الاختيار المشروط، خاصة من قبل أنصار الاختيار غير المشروط:
- السيادة الإلهية: يجادلون بأن الاختيار المشروط يقلل من سيادة الله، حيث أنه يجعل اختيار الله للخلاص يعتمد على استجابة الإنسان. يؤكدون على أن الله هو صاحب السلطة المطلقة، وأن قراراته لا تخضع لأي عوامل خارجية.
- فعالية نعمة الله: يعتقدون أن الاختيار المشروط يقلل من فعالية نعمة الله، حيث أنه يوحي بأن نعمة الله ليست كافية لجذب الناس إلى الإيمان. يرون أن الله يجب أن يكون قادرًا على تغيير قلوب الناس وجذبهم إلى الإيمان بغض النظر عن مقاومتهم.
- التأكيد الكتابي على الاختيار غير المشروط: يستشهدون بالعديد من الآيات التي تتحدث عن الاختيار غير المشروط، مثل رومية 9: 11-13 وأفسس 1: 4-5. يرون أن هذه الآيات تشير إلى أن اختيار الله للخلاص يستند فقط إلى إرادته واختياره المطلق.
- مشكلة الشر: يطرحون السؤال التالي: إذا كان الله يعلم مسبقًا من سيؤمن ومن لن يؤمن، فلماذا يخلق الله أولئك الذين يعلم أنهم سيهلكون؟ يرون أن هذا السؤال يمثل تحديًا كبيرًا للاختيار المشروط.
وجهات نظر مختلفة حول الاختيار المشروط
يوجد تنوع في وجهات النظر حول الاختيار المشروط داخل اللاهوت المسيحي. بعض اللاهوتيين يؤكدون على دور حرية الإرادة بشكل أكبر من غيرهم، بينما يشدد آخرون على أهمية نعمة الله في تمكين الناس من الإيمان.
الأرمينيانية: هي وجهة نظر لاهوتية تؤكد على حرية الإرادة بشكل كبير، وتعتبر أن الله يمنح جميع الناس نعمة كافية لكي يؤمنوا. يعتقد الأرمينيون أن الإنسان يمكن أن يقاوم نعمة الله ويرفض الإيمان، وأن الخلاص يمكن أن يضيع.
شبه بيلاجيانية: هي وجهة نظر لاهوتية تعتبر أن الإنسان قادر على اتخاذ الخطوة الأولى نحو الخلاص بمفرده، دون الحاجة إلى نعمة خاصة من الله. يعتقد شبه البيلاجيين أن نعمة الله ضرورية فقط لإكمال الخلاص، وليس لبدئه.
المولوينية: هي وجهة نظر لاهوتية تحاول الجمع بين السيادة الإلهية وحرية الإنسان من خلال مفهوم “المعرفة المتوسطة” لله. يعتقد المولوينيون أن الله يعلم مسبقًا كيف سيتصرف كل شخص في كل ظرف ممكن، وأن الله يختار العالم الذي سيخلقه بناءً على هذه المعرفة. بهذه الطريقة، يختار الله أولئك الذين سيوؤمنون طواعية في ظل الظروف التي خلقها.
تأثير الاختيار المشروط على الحياة المسيحية
يمكن أن يكون للاعتقاد بالاختيار المشروط تأثير كبير على الحياة المسيحية. بعض الآثار المحتملة تشمل:
- الحماس التبشيري: إذا كان الخلاص يعتمد على استجابة الإنسان للإنجيل، فإن ذلك يحفز المسيحيين على مشاركة إيمانهم مع الآخرين، حتى يتمكنوا من سماع الإنجيل واتخاذ قرار بالإيمان.
- التحذير من الردة: إذا كان الخلاص يمكن أن يضيع، فإن ذلك يحذر المسيحيين من التراخي الروحي والابتعاد عن الإيمان. يشجعهم على الاستمرار في النمو في النعمة والمعرفة، وعلى الثبات في الإيمان حتى النهاية.
- التواضع والاعتماد على الله: حتى لو كان الخلاص يعتمد على استجابة الإنسان، فإن المسيحيين يعترفون بأنهم لا يستطيعون أن يؤمنوا بمفردهم. يعتمدون على نعمة الله لتمكينهم من الإيمان والاستمرار فيه.
- المسؤولية الأخلاقية: إذا كان الإنسان مسؤولاً عن قراراته، فإن ذلك يشجع المسيحيين على عيش حياة أخلاقية ومسؤولة. يسعون إلى إرضاء الله في كل ما يفعلونه، ويعترفون بأن أفعالهم لها عواقب أبدية.
الخلافات المعاصرة حول الاختيار المشروط
لا تزال قضية الاختيار المشروط موضوع نقاش وخلاف في اللاهوت المسيحي المعاصر. يناقش اللاهوتيون الكتابيون والمنتمون إلى الطوائف المختلفة هذه المسألة بتعمق، ويسعون إلى فهم أفضل للكتاب المقدس حول هذا الموضوع المهم.
أحد الخلافات الرئيسية يدور حول تفسير الآيات التي تتحدث عن الاختيار والقدر. هل تشير هذه الآيات إلى اختيار مشروط أم غير مشروط؟ هل تعني أن الله لديه خطة مفصلة لكل شيء يحدث في العالم، أم أن الإنسان يتمتع بحرية حقيقية في اتخاذ قراراته؟
خلاف آخر يتعلق بالعلاقة بين السيادة الإلهية وحرية الإنسان. كيف يمكن التوفيق بين هاتين الحقيقتين؟ هل يمكن أن يكون الله صاحب السيادة المطلقة وفي الوقت نفسه يمنح الإنسان حرية حقيقية؟
تستمر هذه المناقشات في إثراء فهمنا للكتاب المقدس وتحدي افتراضاتنا اللاهوتية. من خلال الدراسة والصلاة والتواضع، يمكننا أن نسعى إلى فهم أفضل لإرادة الله ومقاصده.
خاتمة
الاختيار المشروط هو الاعتقاد بأن الله يختار للخلاص الأبدي أولئك الذين يعلم مسبقًا أنهم سيؤمنون بالمسيح. يقدم أنصار هذا الرأي حججًا كتابية ولاهوتية لدعم وجهة نظرهم، مؤكدين على أهمية حرية الإرادة والمسؤولية الإنسانية. ومع ذلك، تثار العديد من الاعتراضات على الاختيار المشروط، خاصة من قبل أنصار الاختيار غير المشروط. لا تزال هذه القضية موضوع نقاش وخلاف في اللاهوت المسيحي المعاصر، وتستمر في إثراء فهمنا للكتاب المقدس.