مقدمة
بورهوس فريدريك سكينر (Burrhus Frederic Skinner)، الذي ولد في 20 مارس 1904 وتوفي في 18 أغسطس 1990، كان عالم نفس أمريكيًا بارزًا، وأحد أبرز الشخصيات في المدرسة السلوكية في علم النفس. اشتهر سكينر بعمله الرائد في مجال الإشراط الإجرائي، وهو نوع من التعلم يعتمد على استخدام التعزيز والعقاب لتشكيل السلوك. بالإضافة إلى ذلك، كان سكينر مؤلفًا غزير الإنتاج ومخترعًا مؤثرًا، وقد ترك بصمة واضحة في علم النفس والتعليم والفلسفة.
حياته المبكرة وتعليمه
ولد سكينر في سسكويهانا، بنسلفانيا، لعائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. كان والده محاميًا، وكانت والدته ربة منزل. وصف سكينر طفولته بأنها مستقرة وسعيدة، وقد أظهر اهتمامًا مبكرًا بالعلوم والتكنولوجيا. قام ببناء عربات تجرها الدواسات، ومزالق، وأشياء أخرى، مما يدل على موهبته الهندسية.
بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، التحق سكينر بكلية هاميلتون في نيويورك، حيث حصل على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي في عام 1926. خلال فترة وجوده في الكلية، كان يطمح إلى أن يصبح كاتبًا، لكنه سرعان ما شعر بالإحباط بسبب صعوبة تحقيق النجاح في هذا المجال. بعد تخرجه، قضى سكينر عامًا في محاولة الكتابة، لكنه وجد العملية صعبة وغير مُرضية.
في عام 1928، بدأ سكينر دراسة علم النفس في جامعة هارفارد، حيث تأثر بأعمال إيفان بافلوف وجون بي. واتسون، وهما من رواد المدرسة السلوكية. حصل على درجة الماجستير في عام 1930، وعلى درجة الدكتوراه في عام 1931. خلال فترة دراسته في هارفارد، بدأ سكينر في تطوير نظريته الخاصة بالإشراط الإجرائي، والتي أصبحت فيما بعد أساس عمله.
الإشراط الإجرائي
الإشراط الإجرائي هو نوع من التعلم يعتمد على استخدام التعزيز والعقاب لتشكيل السلوك. وفقًا لسكينر، فإن السلوك يتأثر بالعواقب التي تليه. إذا كان السلوك يتبعه نتيجة إيجابية (تعزيز)، فمن المرجح أن يتكرر في المستقبل. أما إذا كان السلوك يتبعه نتيجة سلبية (عقاب)، فمن غير المرجح أن يتكرر.
طور سكينر جهازًا يسمى “صندوق سكينر” (Skinner Box) لدراسة الإشراط الإجرائي في الحيوانات. يتكون الصندوق من حجرة صغيرة تحتوي على رافعة أو مفتاح يمكن للحيوان الضغط عليه. عندما يضغط الحيوان على الرافعة، يتم إطلاق الطعام أو الماء كمكافأة. من خلال هذه التجارب، تمكن سكينر من دراسة كيفية تأثير التعزيز على سلوك الحيوانات.
التعزيز: هو أي حدث يزيد من احتمالية تكرار السلوك في المستقبل. هناك نوعان رئيسيان من التعزيز:
- التعزيز الإيجابي: يتضمن إضافة شيء مرغوب فيه بعد السلوك، مثل إعطاء طعام أو مدح.
- التعزيز السلبي: يتضمن إزالة شيء غير مرغوب فيه بعد السلوك، مثل إيقاف صوت مزعج أو تخفيف الألم.
العقاب: هو أي حدث يقلل من احتمالية تكرار السلوك في المستقبل. هناك أيضًا نوعان رئيسيان من العقاب:
- العقاب الإيجابي: يتضمن إضافة شيء غير مرغوب فيه بعد السلوك، مثل إعطاء صدمة كهربائية أو توبيخ.
- العقاب السلبي: يتضمن إزالة شيء مرغوب فيه بعد السلوك، مثل حرمان الطفل من اللعب أو سحب الامتيازات.
جادل سكينر بأن التعزيز أكثر فعالية من العقاب في تغيير السلوك. العقاب يمكن أن يكون له آثار جانبية سلبية، مثل الخوف والقلق والعدوان. بالإضافة إلى ذلك، قد لا يتعلم الفرد السلوك المرغوب فيه من خلال العقاب، بل يتعلم فقط كيفية تجنب العقاب.
تطبيقات الإشراط الإجرائي
تم تطبيق مبادئ الإشراط الإجرائي على نطاق واسع في مجالات مختلفة، بما في ذلك:
- التعليم: يمكن استخدام التعزيز لتشجيع الطلاب على التعلم وتحسين أدائهم. على سبيل المثال، يمكن للمعلمين استخدام المكافآت والثناء لتعزيز السلوكيات الإيجابية في الفصل الدراسي.
- العلاج النفسي: يمكن استخدام الإشراط الإجرائي لعلاج مجموعة متنوعة من المشكلات النفسية، مثل الرهاب والقلق والإدمان. على سبيل المثال، يمكن استخدام تقنيات مثل التعرض والاستجابة للوقاية (ERP) لعلاج الوسواس القهري.
- إدارة الأعمال: يمكن استخدام التعزيز لتحسين أداء الموظفين وزيادة الإنتاجية. على سبيل المثال، يمكن للشركات تقديم مكافآت وحوافز للموظفين الذين يحققون أهدافهم.
- تدريب الحيوانات: يستخدم الإشراط الإجرائي على نطاق واسع في تدريب الحيوانات، مثل تدريب الكلاب على أداء الحيل أو تدريب الدلافين على المشاركة في العروض.
آراء وانتقادات
على الرغم من تأثيره الكبير، واجهت أفكار سكينر بعض الانتقادات. يرى البعض أن نظريته تركز بشكل مفرط على السلوك الظاهر وتتجاهل العمليات العقلية الداخلية. كما انتقد البعض الآخر نظرته الحتمية للطبيعة البشرية، والتي ترى أن السلوك محدد بالكامل من خلال البيئة.
دافع سكينر عن نظريته بالقول إن علم النفس يجب أن يركز على دراسة السلوك القابل للملاحظة والقياس، بدلاً من التكهن حول العمليات العقلية الداخلية. كما جادل بأن فهم كيفية تأثير البيئة على السلوك يمكن أن يساعدنا في تصميم بيئات أفضل تعزز السلوك المرغوب فيه.
أحد أشهر الانتقادات الموجهة لسكينر هو افتقاره المزعوم إلى الاهتمام بالإرادة الحرة. يعتقد الكثيرون أن سكينر كان يعتقد أن البشر ليس لديهم إرادة حرة وأن سلوكهم يتم تحديده بالكامل من خلال تاريخ التعزيز الخاص بهم. ومع ذلك، لم يعرب سكينر صراحة عن هذا الرأي. بينما اعترف بأن السلوك يتأثر بالبيئة، إلا أنه اعترف أيضًا بأن البشر قادرون على التفكير والتخطيط واتخاذ القرارات.
مساهماته الأخرى
بالإضافة إلى عمله في مجال الإشراط الإجرائي، قدم سكينر مساهمات كبيرة في مجالات أخرى من علم النفس. قام بتطوير آلة تعليمية تهدف إلى تحسين عملية التعلم من خلال تقديم تعزيز فوري للطلاب. كما كتب عددًا من الكتب المؤثرة، بما في ذلك “سلوك الكائنات الحية” (The Behavior of Organisms) و “والدن الثاني” (Walden Two) و “حول السلوكية” (About Behaviorism).
رواية “والدن الثاني” هي يوتوبيا سلوكية تصور مجتمعًا يتم فيه تصميم البيئة لتعزيز السلوك المرغوب فيه. أثارت الرواية جدلاً واسعًا، حيث اعتبرها البعض رؤية طموحة لمجتمع أفضل، بينما اعتبرها البعض الآخر تهديدًا للحرية الفردية.
في كتابه “حول السلوكية”، قدم سكينر شرحًا شاملاً للفلسفة السلوكية، وتناول مجموعة متنوعة من الموضوعات، مثل الوعي واللغة والإرادة الحرة. جادل سكينر بأن السلوكية تقدم إطارًا علميًا لفهم السلوك البشري، وأنها يمكن أن تساعدنا في حل مجموعة متنوعة من المشكلات الاجتماعية.
جوائز وتكريمات
حصل سكينر على العديد من الجوائز والتكريمات طوال حياته المهنية، بما في ذلك:
- الميدالية الوطنية للعلوم (1968)
- جائزة جمعية علم النفس الأمريكية للمساهمات العلمية المتميزة في علم النفس (1971)
- وسام إليانور روزفلت للحقوق الإنسانية (1984)
إرثه
لا يزال عمل سكينر يؤثر على علم النفس والتعليم والفلسفة حتى اليوم. يعتبر أحد أهم علماء النفس في القرن العشرين، وقد ساهم بشكل كبير في فهمنا للسلوك البشري. أفكاره حول الإشراط الإجرائي والتعزيز والعقاب لها تطبيقات عملية واسعة النطاق، ولا تزال تستخدم على نطاق واسع في مجالات مختلفة.
خاتمة
كان بورهوس فريدريك سكينر عالم نفس أمريكيًا رائدًا، اشتهر بعمله في مجال الإشراط الإجرائي. طور سكينر صندوق سكينر لدراسة تأثير التعزيز والعقاب على السلوك. تم تطبيق مبادئ الإشراط الإجرائي على نطاق واسع في مجالات مثل التعليم والعلاج النفسي وإدارة الأعمال وتدريب الحيوانات. على الرغم من بعض الانتقادات، لا يزال عمل سكينر يؤثر على علم النفس والتعليم والفلسفة حتى اليوم.