نشأة وتطوير البي بوكس
في أوائل التسعينيات، كان “جان لويس جاسيه” (Jean-Louis Gassée)، الرئيس التنفيذي السابق لشركة “آبل” (Apple)، يبحث عن مشروع جديد بعد مغادرته الشركة. قرر جاسيه تأسيس شركة “بي إنك” بهدف تطوير نظام تشغيل حديث ومتطور، يركز على الوسائط المتعددة والتطبيقات المتقدمة. كان نظام التشغيل “بي أو إس” هو المنتج الرئيسي للشركة، وكان البي بوكس هو الجهاز المصمم لعرض قدرات هذا النظام.
بدأ تطوير البي بوكس في عام 1991، وكان الهدف هو إنشاء جهاز قوي قادر على التعامل مع متطلبات نظام التشغيل “بي أو إس”. تميز الجهاز بتصميم فريد من نوعه، حيث استخدم معالجين من نوع “باور بي سي 603” (PowerPC 603) من شركة “موتورولا” (Motorola). كان هذا التصميم مبتكرًا في ذلك الوقت، حيث كانت معظم الحواسيب الشخصية تستخدم معالجًا واحدًا فقط. كان استخدام معالجين يهدف إلى توفير أداء أفضل للتطبيقات التي تتطلب الكثير من الموارد، مثل تحرير الفيديو والصوت.
تم إطلاق البي بوكس في أكتوبر 1995، وكان سعره حوالي 1600 دولار أمريكي. كان الجهاز يستهدف بشكل أساسي المطورين والمتحمسين الذين يرغبون في تجربة نظام التشغيل “بي أو إس”.
مواصفات البي بوكس
تميز البي بوكس بمجموعة من المواصفات التي جعلته جهازًا فريدًا من نوعه في ذلك الوقت:
- المعالج: معالجان من نوع “باور بي سي 603” بتردد 66 ميجاهرتز (لاحقًا 133 ميجاهرتز في الإصدارات اللاحقة).
- الذاكرة العشوائية (RAM): 8 ميجابايت قابلة للترقية حتى 256 ميجابايت.
- القرص الصلب: لا يوجد قرص صلب مدمج، ولكن يمكن إضافة قرص صلب من نوع IDE.
- بطاقة الفيديو: بطاقة فيديو مدمجة تدعم دقة عرض تصل إلى 1280 × 1024 بكسل.
- منافذ الإدخال والإخراج:
- منفذان تسلسليان.
- منفذ متوازي.
- منفذ PS/2 للوحة المفاتيح والفأرة.
- منفذ صوتي.
- منفذ MIDI.
- “Be Bus”: ناقل إدخال/إخراج خاص بشركة Be Inc. لتوصيل الأجهزة الطرفية.
أحد أبرز مميزات البي بوكس كان وجود شريط من المصابيح LED في الجزء الأمامي من الجهاز، والذي يعرض مستوى استخدام المعالجين. كان هذا الشريط يوفر للمستخدمين نظرة سريعة على أداء النظام.
نظام التشغيل بي أو إس (BeOS)
كان نظام التشغيل “بي أو إس” هو القلب النابض لجهاز البي بوكس. تم تصميم هذا النظام ليكون سريعًا وفعالًا، مع التركيز على الوسائط المتعددة والتطبيقات المتقدمة. تميز “بي أو إس” ببنية متعددة المهام ومتعددة الخيوط، مما يسمح بتشغيل العديد من التطبيقات في وقت واحد بسلاسة.
بعض الميزات الرئيسية لنظام التشغيل “بي أو إس”:
- نظام ملفات حديث: تم استخدام نظام ملفات خاص يسمى “BFS” (Be File System)، والذي كان يتميز بالسرعة والمرونة.
- واجهة مستخدم رسومية متطورة: تميزت الواجهة بالبساطة والسهولة في الاستخدام.
- دعم قوي للوسائط المتعددة: كان “بي أو إس” يتمتع بدعم ممتاز لتشغيل وتحرير الفيديو والصوت.
- دعم متعدد المعالجات: تم تصميم النظام للاستفادة الكاملة من وجود معالجين في البي بوكس.
على الرغم من الميزات المتقدمة التي كان يتمتع بها “بي أو إس”، إلا أنه لم يحقق انتشارًا واسعًا. كان أحد الأسباب الرئيسية لذلك هو نقص التطبيقات المتوفرة للنظام. على الرغم من ذلك، فقد اكتسب “بي أو إس” شعبية كبيرة بين المطورين والمتحمسين الذين قدروا تصميمه المبتكر وأدائه المتميز.
فشل البي بوكس وأسباب توقف إنتاجه
على الرغم من الجهود المبذولة، لم يحقق البي بوكس النجاح التجاري المتوقع. تم بيع عدد قليل نسبيًا من الأجهزة، وتوقفت شركة “بي إنك” عن إنتاجه في عام 1997. هناك عدة أسباب ساهمت في فشل البي بوكس:
- السعر المرتفع: كان سعر البي بوكس مرتفعًا مقارنة بالحواسيب الشخصية الأخرى في ذلك الوقت.
- نقص التطبيقات: لم يكن هناك عدد كاف من التطبيقات المتوفرة لنظام التشغيل “بي أو إس”، مما حد من جاذبية الجهاز للمستخدمين العاديين.
- المنافسة الشديدة: كانت سوق الحواسيب الشخصية في ذلك الوقت تشهد منافسة شرسة بين الشركات الكبرى مثل “آبل” و”مايكروسوفت” (Microsoft).
- مشاكل في الإنتاج: واجهت شركة “بي إنك” بعض المشاكل في إنتاج البي بوكس، مما أدى إلى تأخير في التسليم.
بعد توقف إنتاج البي بوكس، حاولت شركة “بي إنك” التركيز على تطوير نظام التشغيل “بي أو إس” وتقديمه كبديل لنظام التشغيل “ويندوز” (Windows) من شركة “مايكروسوفت”. ومع ذلك، لم تنجح الشركة في تحقيق هذا الهدف، وتم بيع نظام التشغيل “بي أو إس” لشركة “بالم” (Palm) في عام 2001.
إرث البي بوكس
على الرغم من فشله التجاري، ترك البي بوكس بصمة واضحة في تاريخ الحواسيب الشخصية. يعتبر الجهاز مثالًا على الابتكار والجرأة في التصميم، وقد ألهم العديد من المهندسين والمطورين. كما أن نظام التشغيل “بي أو إس” لا يزال يحظى بتقدير كبير من قبل المتحمسين والمطورين الذين يقدرون تصميمه المبتكر وأدائه المتميز.
لا يزال البي بوكس يعتبر قطعة نادرة ومطلوبة من قبل هواة جمع التحف الإلكترونية. يمثل الجهاز فترة زمنية فريدة في تاريخ الحوسبة، حيث كانت الشركات الصغيرة تحاول تحدي الشركات الكبرى بمنتجات مبتكرة وجديدة.
التأثير على الحوسبة الحديثة
على الرغم من أن البي بوكس لم ينجح في تحقيق انتشار واسع، إلا أن بعض الأفكار والمفاهيم التي قدمها قد أثرت على الحوسبة الحديثة. على سبيل المثال، يعتبر التركيز على الوسائط المتعددة والأداء العالي في نظام التشغيل “بي أو إس” بمثابة رؤية مستقبلية لما أصبحت عليه الحواسيب اليوم.
كما أن تصميم البي بوكس الذي يعتمد على معالجين قد ألهم الشركات الأخرى لاستكشاف استخدام المعالجات المتعددة في الحواسيب الشخصية. اليوم، أصبحت المعالجات المتعددة النواة شائعة في معظم الحواسيب، وذلك بفضل التطورات في تكنولوجيا المعالجات والتطبيقات التي تستفيد من وجود أكثر من نواة.
خاتمة
كان البي بوكس جهازًا فريدًا من نوعه تميز بتصميمه المبتكر واستخدامه لمعالجين مركزيين ونظام التشغيل “بي أو إس” المتطور. على الرغم من أنه لم يحقق النجاح التجاري المتوقع، إلا أنه ترك بصمة واضحة في تاريخ الحواسيب الشخصية وألهم العديد من المهندسين والمطورين. يظل البي بوكس رمزًا للابتكار والجرأة في عالم التكنولوجيا.