أصل المفهوم وتطوره
يرتبط مفهوم بروهايريس ارتباطاً وثيقاً بالفلسفة الرواقية، التي ازدهرت في العصر الهلنستي والروماني. كان الرواقيون، مثل زينون من سيتيوم، وإبيكتيتوس، وماركوس أوريليوس، يؤمنون بأن السعادة الحقيقية (الأتاركسيا) تنبع من العيش في وئام مع الطبيعة، والتي تعني أيضاً العيش وفقاً للعقل والفضيلة. بالنسبة لهم، كانت بروهايريس هي الأداة التي تمكن الإنسان من تحقيق هذا الانسجام.
استخدم الرواقيون هذا المصطلح للإشارة إلى القدرة على التمييز بين ما هو “في سيطرتنا” وما هو “خارج عن سيطرتنا”. يعني هذا التمييز أننا مسؤولون فقط عن أفعالنا، وأحكامنا، وتوجهاتنا الداخلية، بينما الأحداث الخارجية، مثل الصحة، والثروة، والسمعة، تقع خارج نطاق سيطرتنا المباشرة. من خلال التركيز على بروهايريس، يمكن للفرد أن يتجنب الانزعاج والاضطراب الناجمين عن القلق بشأن الأشياء التي لا يمكنه التحكم بها، والتركيز بدلاً من ذلك على تنمية الفضيلة والعيش حياة هادفة.
بروهايريس والعقل
تعتبر العلاقة بين بروهايريس والعقل (المنطق) علاقة وثيقة في الفلسفة الرواقية. يعتقد الرواقيون أن العقل هو القوة التي تميز الإنسان عن الحيوانات الأخرى. من خلال استخدام العقل، يمكننا فهم العالم من حولنا، وتطوير فهم للفضيلة، واتخاذ قرارات عقلانية. بروهايريس، إذن، هي القدرة على تطبيق العقل في اتخاذ القرارات. إنها القدرة على اختيار الأفعال التي تتماشى مع العقل والفضيلة، وتجنب الأفعال التي تتعارض معهما.
يتجلى دور العقل في بروهايريس في:
- التقييم: القدرة على تقييم المواقف والأحداث بشكل عقلاني، وتمييز ما هو جيد وما هو سيئ، وما هو مهم وما هو غير مهم.
- الاختيار: القدرة على اتخاذ الخيارات بناءً على التقييم العقلاني، واختيار الأفعال التي تتماشى مع الفضيلة.
- التنفيذ: القدرة على تنفيذ القرارات التي تم اتخاذها، والعمل بثبات وعزم لتحقيق الأهداف الأخلاقية.
بروهايريس والفضيلة
الهدف الأساسي من بروهايريس، في الفلسفة الرواقية، هو تحقيق الفضيلة. يعتقد الرواقيون أن الفضيلة هي الخير الوحيد الذي يستحق السعي وراءه، وأن السعادة الحقيقية تأتي من العيش بفضيلة. الفضائل الرئيسية التي ركز عليها الرواقيون تشمل:
- الحكمة: القدرة على التفكير بوضوح، وفهم العالم، واتخاذ قرارات حكيمة.
- العدالة: القدرة على التصرف بشكل عادل ونزيه مع الآخرين.
- الشجاعة: القدرة على مواجهة التحديات والمصاعب بشجاعة وثبات.
- الاعتدال: القدرة على التحكم في الرغبات والعواطف، والعيش باعتدال.
من خلال ممارسة بروهايريس، يمكن للفرد أن يختار الأفعال التي تعزز هذه الفضائل. هذا يعني أن الشخص يختار أن يكون حكيماً، وعادلاً، وشجاعاً، ومعتدلاً في جميع جوانب حياته. وهكذا، تصبح بروهايريس هي الأداة التي تمكن الفرد من تحقيق الفضيلة، والعيش حياة سعيدة ومرضية.
بروهايريس والتحكم في الذات
التحكم في الذات هو جانب آخر مهم من جوانب بروهايريس. يرى الرواقيون أن قدرتنا على التحكم في ردود أفعالنا، وعواطفنا، ورغباتنا، أمر بالغ الأهمية لتحقيق السعادة والفضيلة. من خلال ممارسة بروهايريس، يمكننا أن نتعلم كيفية التحكم في أفكارنا وعواطفنا، وعدم السماح لها بالسيطرة علينا. هذا يعني أننا نتعلم كيفية الاستجابة للأحداث الخارجية بهدوء وعقلانية، بدلاً من الانفعال والغضب.
تشمل جوانب التحكم في الذات المتعلقة بـ بروهايريس:
- الوعي الذاتي: القدرة على إدراك أفكارنا، وعواطفنا، وسلوكياتنا.
- السيطرة على العواطف: القدرة على تنظيم العواطف، وعدم السماح لها بالتحكم في سلوكنا.
- المرونة: القدرة على التكيف مع التغيير، وتقبل الحقائق كما هي.
- ضبط النفس: القدرة على تأجيل الإشباع الفوري، والعمل لتحقيق الأهداف طويلة الأجل.
من خلال ممارسة هذه الجوانب من التحكم في الذات، يمكن للفرد أن يصبح أكثر قدرة على اتخاذ القرارات العقلانية، والعيش حياة أكثر فضيلة.
تطبيق بروهايريس في الحياة اليومية
يمكن تطبيق مبادئ بروهايريس في العديد من جوانب الحياة اليومية. على سبيل المثال، عندما نواجه صعوبات أو تحديات، يمكننا استخدام بروهايريس لتقييم الموقف بشكل عقلاني، والتركيز على ما هو في سيطرتنا (مثل ردود أفعالنا)، بدلاً من القلق بشأن الأشياء التي لا يمكننا التحكم بها. يمكننا أيضاً استخدام بروهايريس لاتخاذ قرارات أخلاقية، واختيار الأفعال التي تتماشى مع قيمنا وفضائلنا.
تشمل أمثلة تطبيق بروهايريس في الحياة اليومية:
- في العمل: اتخاذ القرارات المهنية بناءً على المبادئ الأخلاقية، والعمل بجد واجتهاد، والتعامل مع الزملاء باحترام.
- في العلاقات: بناء علاقات صحية وقوية مع الآخرين، والتحلي بالصبر والتسامح، والتواصل بصدق وشفافية.
- في الصحة: العناية بالصحة الجسدية والعقلية، واتباع نظام غذائي صحي، وممارسة الرياضة بانتظام.
- في مواجهة الشدائد: الحفاظ على الهدوء والاتزان في أوقات الأزمات، والتركيز على إيجاد حلول للمشاكل.
من خلال تطبيق مبادئ بروهايريس في حياتنا اليومية، يمكننا أن نعيش حياة أكثر هدوءاً، وسعادة، وفضيلة.
بروهايريس والتحديات المعاصرة
لا تزال مبادئ بروهايريس ذات صلة كبيرة بالتحديات المعاصرة التي نواجهها. في عالم اليوم، الذي يتميز بالضغط المستمر، وعدم اليقين، والتوتر، يمكن أن تساعدنا بروهايريس على التعامل مع هذه التحديات بطريقة أكثر صحة وفعالية. من خلال التركيز على ما هو في سيطرتنا، يمكننا أن نتجنب الانغماس في القلق والإحباط، والتركيز بدلاً من ذلك على تنمية الفضيلة والعيش حياة هادفة.
تشمل التحديات المعاصرة التي يمكن أن تساعدنا بروهايريس على التعامل معها:
- التوتر والقلق: من خلال تعلم كيفية التحكم في أفكارنا وعواطفنا، يمكننا أن نقلل من مستويات التوتر والقلق.
- العلاقات السامة: من خلال التركيز على سلوكنا الخاص، يمكننا أن نتعلم كيفية تحديد الحدود، والتفاعل مع الآخرين بطريقة صحية.
- الإدمان: من خلال تطوير الوعي الذاتي، والتحكم في الذات، يمكننا أن نتغلب على الإدمان والعيش حياة أكثر صحة.
- القرارات الأخلاقية الصعبة: من خلال استخدام العقل والفضيلة، يمكننا اتخاذ قرارات أخلاقية صعبة بثقة وثبات.
من خلال تبني مبادئ بروهايريس، يمكننا أن نصبح أكثر مرونة، وتكيفاً، وقدرة على مواجهة التحديات المعاصرة.
خاتمة
بروهايريس هي مفهوم فلسفي عميق يمثل جوهر القدرة الإنسانية على اتخاذ القرارات الأخلاقية، والتحكم في الذات، والعيش حياة فاضلة. من خلال فهم مبادئ بروهايريس، يمكننا أن نتعلم كيفية التركيز على ما هو في سيطرتنا، وتجنب القلق بشأن الأشياء التي لا يمكننا التحكم بها. يمكننا أيضاً أن نتعلم كيفية ممارسة الفضيلة، واتخاذ القرارات العقلانية، والعيش حياة أكثر هدوءاً، وسعادة، وهدفاً. إن تطبيق مبادئ بروهايريس في حياتنا اليومية يمكن أن يساعدنا على التعامل مع التحديات المعاصرة بطريقة أكثر صحة وفعالية، والعيش حياة أكثر معنى.
المراجع
- Stanford Encyclopedia of Philosophy: Ancient Ethics
- Internet Encyclopedia of Philosophy: Stoicism
- Encyclopedia Britannica: Stoicism
- Wikipedia: Prohairesis
“`