مقدمة
سفر حبقوق هو السفر الثامن من بين أسفار الأنبياء الصغار الاثني عشر في الكتاب المقدس. يُنسب إلى النبي حبقوق، ويُعتقد أنه كتب في أواخر القرن السابع قبل الميلاد، ربما حوالي عام 605 قبل الميلاد، قبل أو أثناء الغزو البابلي ليهوذا. يتميز السفر بأسلوبه الفريد، حيث يتكون في الغالب من حوار بين النبي والله، بدلاً من مجرد مجموعة من النبوءات.
خلفية تاريخية
يشير السياق التاريخي لسفر حبقوق إلى فترة مضطربة في تاريخ مملكة يهوذا. كانت الإمبراطورية الآشورية في انحدار، وكانت بابل في صعود، مهددةً بفرض سيطرتها على المنطقة. كانت يهوذا تعاني من الفساد الداخلي والظلم الاجتماعي، مما أثار تساؤلات لدى النبي حول عدالة الله وصبره على الشر.
يُعتقد أن حبقوق كان معاصرًا للنبي إرميا، وعاش في فترة شهدت فيها يهوذا حكم الملوك يوشيا ويهوآحاز ويهوياقيم. كان يوشيا ملكًا صالحًا سعى إلى إصلاح ديني واجتماعي، لكن خلفائه لم يتبعوا خطواته، مما أدى إلى تفشي الفساد والظلم.
محتوى السفر
يمكن تقسيم سفر حبقوق إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
- القسم الأول (الإصحاح 1): يتكون من شكوى حبقوق إلى الله بسبب انتشار الظلم والعنف في يهوذا، وتساؤله عن سبب صمت الله وعدم تدخله.
- القسم الثاني (الإصحاح 2): يتضمن رد الله على حبقوق، حيث يكشف له عن أنه سيستخدم البابليين كأداة لتأديب يهوذا، ولكنه سيحاسب البابليين أيضًا على شرورهم.
- القسم الثالث (الإصحاح 3): هو صلاة حبقوق وابتهاله إلى الله، معبرًا عن إيمانه وثقته في عدالة الله ورحمته، حتى في ظل الظروف الصعبة.
شكوى حبقوق وتساؤلاته
يبدأ السفر بشكوى حبقوق إلى الله بسبب الظلم والعنف الذي يراه في كل مكان. يتساءل النبي عن سبب صمت الله وعدم تدخله لإنقاذ شعبه من الشر. يقول حبقوق: “حَتَّى مَتَى يَا رَبُّ أَصْرُخُ وَأَنْتَ لاَ تَسْمَعُ؟ أَصْرُخُ إِلَيْكَ مِنَ الظُّلْمِ وَأَنْتَ لاَ تُخَلِّصُ؟ لِمَاذَا تُرِينِي إِثْمًا وَتُبْصِرُ غَيْرَ؟ وَالسَّلْبُ وَالظُّلْمُ قُبَالَتِي، وَيُوجَدُ الْخِصَامُ وَتَحْدُثُ الْمُخَاصَمَةُ؟ لِذلِكَ جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحَقُّ بَتَّةً. لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ، فَلِذلِكَ يَخْرُجُ الْحَقُّ مُعَوَّجًا” (حبقوق 1: 2-4).
تعكس شكوى حبقوق إحساسًا عميقًا باليأس والإحباط، وتكشف عن صراع داخلي بين إيمانه بعدالة الله ورؤيته للشر المتفشي في العالم. إن تساؤلاته ليست مجرد تعبير عن الشك، بل هي دعوة إلى الله للتدخل والتحرك.
رد الله ووعده
يجيب الله على حبقوق، ويكشف له عن خطته لاستخدام البابليين كأداة لتأديب يهوذا. يصف الله البابليين بأنهم “شعب قاسٍ متسرع” (حبقوق 1: 6)، وأنهم سيغزون الأرض ويفرضون سيطرتهم على الأمم. يدرك حبقوق أن البابليين أشرار وأكثر قسوة من يهوذا، فيتساءل كيف يمكن لله أن يستخدم شعبًا شريرًا لتأديب شعبه.
يطمئن الله حبقوق بأنه سيحاسب البابليين أيضًا على شرورهم، وأن عدالة الله ستتحقق في النهاية. يقول الله: “هُوَذَا الْمُنْتَفِخُ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا” (حبقوق 2: 4). هذه الآية هي من أهم آيات السفر، وتعتبر أساسًا لعقيدة التبرير بالإيمان في العهد الجديد.
صلاة حبقوق وابتهاله
بعد أن سمع حبقوق رد الله ووعده، صلى إلى الله وتضرع إليه. تعبر صلاة حبقوق عن إيمانه العميق وثقته في عدالة الله ورحمته، حتى في ظل الظروف الصعبة. يقول حبقوق: “يَا رَبُّ، قَدْ سَمِعْتُ خَبَرَكَ فَجَزِعْتُ. يَا رَبُّ، أَحْيِ عَمَلَكَ فِي وَسَطِ السِّنِينَ. فِي وَسَطِ السِّنِينَ عَرِّفْ. فِي الْغَضَبِ اذْكُرِ الرَّحْمَةَ” (حبقوق 3: 2).
تصف صلاة حبقوق قوة الله وعظمته، وتذكر بأعماله العظيمة في الماضي، مثل إخراج بني إسرائيل من مصر. يعبر حبقوق عن ثقته في أن الله سينقذ شعبه في النهاية، ويمنحهم السلام والأمان. يختتم حبقوق صلاته بالتعبير عن فرحه وثقته في الله، حتى لو لم تتحقق آماله ورغباته. يقول حبقوق: “مَعَ أَنَّ شَجَرَ الزَّيْتُونِ لاَ يُزْهِرُ، وَلاَ يَكُونُ حَصِيلٌ فِي الْحُقُولِ، يَكْذِبُ عَمَلُ الزَّيْتُونِ، وَالْحُقُولُ لاَ تَصْنَعُ طَعَامًا، يَنْقَطِعُ الْغَنَمُ مِنَ الْحَظِيرَةِ، وَلاَ بَقَرَ فِي الْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ، وَأَفْرَحُ بِإِلهِ خَلاَصِي” (حبقوق 3: 17-18).
رسالة السفر
يحمل سفر حبقوق رسالة مهمة عن الإيمان والثقة في الله، حتى في ظل الظروف الصعبة. يعلمنا السفر أن نثق في عدالة الله ورحمته، حتى عندما لا نفهم خططه وأعماله. يشجعنا السفر على أن نصلي إلى الله ونعبر عن مخاوفنا وتساؤلاتنا، وأن ننتظر بصبر وعده. يذكرنا السفر بأن الله سيعاقب الأشرار وينصف المظلومين في النهاية.
تعتبر رسالة السفر ذات أهمية خاصة في عالم اليوم، حيث نواجه العديد من التحديات والصعوبات. يشجعنا السفر على أن نتمسك بإيماننا وثقتنا في الله، وأن نسعى إلى العدالة والسلام في العالم.
الأهمية اللاهوتية
لسفر حبقوق أهمية لاهوتية كبيرة، حيث يقدم رؤى قيمة حول طبيعة الله وعلاقته بالبشر. يؤكد السفر على عدالة الله وقدسته، ويظهر كيف أنه لا يتغاضى عن الشر والظلم. يوضح السفر أيضًا صبر الله ورحمته، وكيف أنه يعطي الناس فرصة للتوبة والرجوع إليه.
تعتبر الآية “وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا” (حبقوق 2: 4) من أهم الآيات في السفر، وتعتبر أساسًا لعقيدة التبرير بالإيمان في العهد الجديد. استشهد بولس الرسول بهذه الآية في رسالته إلى أهل رومية (رومية 1: 17) وفي رسالته إلى أهل غلاطية (غلاطية 3: 11) لتأكيد أن الخلاص هو بالإيمان بيسوع المسيح، وليس بالأعمال.
خاتمة
سفر حبقوق هو سفر نبوي قصير ولكنه عميق، يتناول قضايا مهمة مثل الظلم، والإيمان، وعدالة الله. من خلال حوار بين النبي والله، يقدم السفر رؤى قيمة حول كيفية التعامل مع الشك واليأس، وكيفية الثقة في الله حتى في ظل الظروف الصعبة. رسالة السفر لا تزال ذات صلة اليوم، وتشجعنا على التمسك بإيماننا والسعي إلى العدالة والسلام.