خلفية تاريخية
بعد سقوط مملكة يهوذا وتدمير الهيكل في عام 586 قبل الميلاد، تم سبي العديد من اليهود إلى بابل. وبعد مرور حوالي خمسين عامًا، أصدر الملك الفارسي قورش الكبير مرسومًا يسمح لليهود بالعودة إلى وطنهم وإعادة بناء الهيكل. بدأ العمل في إعادة البناء بقيادة زربابل، لكنه واجه معارضة من الشعوب المجاورة. في هذه الظروف، ظهر النبي زكريا لتشجيع الشعب وحثهم على إكمال المهمة التي بدأوها.
محتوى السفر
ينقسم سفر زكريا إلى قسمين رئيسيين:
- الفصول 1-8: تتضمن سلسلة من الرؤى الليلية التي تلقاها زكريا، والتي ترمز إلى جوانب مختلفة من خطة الله لمستقبل إسرائيل. تتناول هذه الرؤى تطهير أورشليم، وإعادة بناء الهيكل، وملكية المسيح المنتظرة.
- الفصول 9-14: تحتوي على نبوات وأقوال متنوعة تتناول موضوعات مثل دينونة الأمم، وخلاص إسرائيل، ومجيء الملك المسيح. غالبًا ما تُعتبر هذه الفصول أكثر صعوبة في التفسير، وتتضمن صورًا رمزية معقدة.
الرؤى في سفر زكريا (الفصول 1-8)
يتضمن الجزء الأول من سفر زكريا سلسلة من ثماني رؤى ليلية، كل منها تحمل رسالة رمزية:
- رؤية الفرسان (زكريا 1: 7-17): يرى زكريا فرسانًا يتجولون في الأرض، ويقدمون تقريرًا عن السلام الظاهري، لكن الله يعد بالرحمة لأورشليم.
- رؤية القرون الأربعة والحدادين (زكريا 1: 18-21): ترمز القرون الأربعة إلى الأمم التي شتتت إسرائيل، بينما يمثل الحدادون القوة الإلهية التي ستحطم هذه الأمم.
- رؤية رجل ومقياس (زكريا 2: 1-13): يرى زكريا رجلاً يقيس أورشليم، مما يشير إلى إعادة بنائها وازدهارها.
- رؤية رئيس الكهنة يشوع (زكريا 3: 1-10): يرى زكريا رئيس الكهنة يشوع وهو يرتدي ثيابًا قذرة، ثم يتم تطهيره وارتداء ثياب نظيفة، مما يرمز إلى تطهير إسرائيل من الخطية.
- رؤية المنارة الذهبية وشجرتي الزيتون (زكريا 4: 1-14): ترمز المنارة الذهبية إلى إسرائيل كنور للأمم، وتمثل شجرتي الزيتون زربابل ويشوع، اللذين يمثلان القيادة المدنية والدينية.
- رؤية الدرج الطائر (زكريا 5: 1-4): يرمز الدرج الطائر إلى اللعنة التي ستصيب الأشرار.
- رؤية الإيفة (زكريا 5: 5-11): ترمز الإيفة إلى الشر الذي سيُزال من الأرض.
- رؤية المركبات الأربعة (زكريا 6: 1-8): ترمز المركبات الأربعة إلى الدينونة الإلهية التي ستطال الأرض.
نبوات وأقوال (الفصول 9-14)
يتضمن الجزء الثاني من سفر زكريا مجموعة من النبوات والأقوال التي تتناول موضوعات متنوعة، بما في ذلك:
- دينونة الأمم (زكريا 9: 1-8): يتنبأ زكريا بدينونة الأمم المحيطة بإسرائيل.
- مجيء الملك المسيح (زكريا 9: 9-10): يتنبأ زكريا بمجيء ملك متواضع يركب على حمار، وهو ما يُعتبر نبوة عن دخول يسوع المسيح إلى أورشليم.
- خلاص إسرائيل (زكريا 10-12): يتنبأ زكريا بخلاص إسرائيل وتجمعهم من الشتات.
- طعنة المسيح (زكريا 12: 10): يتنبأ زكريا بأن شعب إسرائيل سينظر إلى الذي طعنوه وينوحون عليه، وهو ما يُعتبر نبوة عن صلب يسوع المسيح.
- تنقية أورشليم (زكريا 13): يتنبأ زكريا بتنقية أورشليم من الأوثان والأنبياء الكذبة.
- حرب الأمم ضد أورشليم (زكريا 14): يتنبأ زكريا بحرب الأمم ضد أورشليم وانتصار الله النهائي.
الأهمية اللاهوتية
يحمل سفر زكريا أهمية لاهوتية كبيرة، حيث يركز على عدة جوانب رئيسية:
- سيادة الله: يؤكد السفر على سيادة الله المطلقة على التاريخ والأمم. الله هو الذي يتحكم في الأحداث ويوجهها لتحقيق مقاصده.
- العهد مع إسرائيل: يذكر السفر بالعهد الذي قطعه الله مع إسرائيل، ويعد بتجديد هذا العهد وإعادة إسرائيل إلى مكانتها.
- أهمية الهيكل: يركز السفر على أهمية الهيكل كمركز للعبادة والتواصل مع الله. إعادة بناء الهيكل هي علامة على تجديد العهد وعودة حضور الله إلى إسرائيل.
- مجيء المسيح: يتضمن السفر نبوات واضحة عن مجيء المسيح، ودوره كملك ومخلص لإسرائيل والعالم.
- الدينونة والخلاص: يؤكد السفر على أن الله سيدين الأشرار ويخلص الأبرار. الدينونة هي جزء من خطة الله لإقامة العدل في الأرض.
التفسيرات المختلفة
تتعدد التفسيرات لسفر زكريا، خاصة فيما يتعلق بالنبوءات الموجودة في الفصول 9-14. يمكن تصنيف هذه التفسيرات إلى عدة أنواع:
- التفسير الحرفي: يرى هذا التفسير أن النبوءات ستتحقق حرفيًا في المستقبل.
- التفسير الرمزي: يرى هذا التفسير أن النبوءات تحمل معاني رمزية وتشير إلى حقائق روحية.
- التفسير التاريخي: يرى هذا التفسير أن النبوءات تحققت في الماضي، إما جزئيًا أو كليًا.
- التفسير المسيحاني: يركز هذا التفسير على النبوءات التي تشير إلى المسيح، ويرى أنها تحققت في يسوع المسيح.
من المهم ملاحظة أن هذه التفسيرات ليست بالضرورة متعارضة، ويمكن أن تكمل بعضها البعض. يعتمد اختيار التفسير المناسب على المنهجية اللاهوتية والافتراضات المسبقة للمفسر.
تأثير السفر على العهد الجديد
يظهر تأثير سفر زكريا بوضوح في العهد الجديد، حيث يتم الاقتباس منه والإشارة إليه في عدة مواضع. على سبيل المثال:
- دخول يسوع إلى أورشليم (متى 21: 5): يقتبس متى الإنجيلي من زكريا 9: 9 ليصف دخول يسوع إلى أورشليم كتحقيق لنبوءة مجيء الملك المتواضع.
- خيانة يهوذا (متى 27: 9-10): يشير متى الإنجيلي إلى زكريا 11: 12-13 ليصف خيانة يهوذا الإسخريوطي وتسليم يسوع بثلاثين من الفضة.
- طعنة المسيح (يوحنا 19: 37): يقتبس يوحنا الإنجيلي من زكريا 12: 10 ليصف طعنة المسيح على الصليب كتحقيق لنبوءة.
تُظهر هذه الاقتباسات والإشارات أن كتاب العهد الجديد رأى في يسوع المسيح تحقيقًا لنبوءات سفر زكريا، وأنه هو الملك والمخلص المنتظر.
خاتمة
سفر زكريا هو سفر نبوي هام في الكتاب المقدس العبري، يقدم رسالة تشجيع وأمل لشعب إسرائيل في فترة ما بعد السبي البابلي. يركز السفر على إعادة بناء الهيكل وتجديد العهد مع الله، ويتضمن نبوءات عن مجيء الملك المسيح. يحمل السفر أهمية لاهوتية كبيرة، ويؤكد على سيادة الله وأهمية العهد مع إسرائيل ومجيء المسيح. أثر سفر زكريا بشكل كبير على العهد الجديد، حيث تم الاقتباس منه والإشارة إليه في عدة مواضع للإشارة إلى يسوع المسيح كتحقيق للنبوءات.