مقدمة
سِفر حَجَّاي هو أحد أسفار الكتاب المقدس العبري أو التناخ، ويُعتبر ثالث آخر أسفار الأنبياء الصغار الاثني عشر. يُنسب هذا السفر إلى النبي حَجَّاي، الذي عاش في فترة ما بعد السبي البابلي، وتحديدًا في عهد داريوس الأول، ملك فارس، حوالي عام 520 قبل الميلاد. يتميز السفر بقصره الشديد، حيث يتكون من فصلين فقط، لكنه يحمل رسالة قوية ومؤثرة للشعب اليهودي العائد من بابل.
الخلفية التاريخية
بعد سقوط مملكة يهوذا على يد البابليين في عام 586 قبل الميلاد، تم ترحيل العديد من اليهود إلى بابل. وفي عام 539 قبل الميلاد، سمح الملك الفارسي كورش الكبير لليهود بالعودة إلى وطنهم وإعادة بناء الهيكل في القدس. ومع ذلك، واجهت عملية إعادة البناء العديد من التحديات، بما في ذلك المعارضة من الشعوب المجاورة والظروف الاقتصادية الصعبة، مما أدى إلى توقف العمل في بناء الهيكل لفترة طويلة.
في هذه الظروف الصعبة، ظهر النبي حَجَّاي لحث الشعب على استئناف بناء الهيكل. كان حَجَّاي نبيًا معاصرًا للنبي زكريا، وكلاهما لعب دورًا مهمًا في تشجيع الشعب على إكمال بناء الهيكل. ركز حَجَّاي في رسالته على أهمية إعادة بناء الهيكل باعتباره رمزًا لحضور الله في وسط شعبه، وشرطًا أساسيًا لاستعادة بركة الله ورضاه.
محتوى السفر
ينقسم سفر حَجَّاي إلى أربع رسائل نبوية قصيرة، ألقاها حَجَّاي في غضون بضعة أشهر في عام 520 قبل الميلاد:
- الرسالة الأولى (حَجَّاي 1: 1-15): في هذه الرسالة، يوبخ حَجَّاي الشعب لاهتمامهم ببناء بيوتهم الخاصة بينما بقي بيت الرب خرابًا. يحثهم على التفكير في عواقب إهمالهم لبيت الرب، ويذكرهم بأن الجفاف والفقر اللذين يعانون منهما هما نتيجة لعدم إعطائهم الأولوية لبيت الرب.
- الرسالة الثانية (حَجَّاي 2: 1-9): بعد استئناف العمل في بناء الهيكل، شعر بعض كبار السن بالإحباط لأن الهيكل الجديد لم يكن بمثل روعة الهيكل الأول الذي بناه سليمان. يشجعهم حَجَّاي ويخبرهم بأن مجد الهيكل الجديد سيكون أعظم من مجد الهيكل القديم، لأن الرب سيملأه بالمجد.
- الرسالة الثالثة (حَجَّاي 2: 10-19): يسأل حَجَّاي الكهنة عن قانون الطهارة، ويشرح لهم أن الشعب أصبح نجسًا بسبب إهمالهم لبيت الرب، وأن كل ما يلمسونه أصبح نجسًا أيضًا. يعدهم حَجَّاي بأنه من ذلك اليوم فصاعدًا، سيباركهم الرب.
- الرسالة الرابعة (حَجَّاي 2: 20-23): يوجه حَجَّاي رسالة خاصة إلى زَرُبَّابل، حاكم يهوذا، ويعده بأن الرب سيقلب عروش الممالك ويهلك قوة الأمم. يختار الرب زَرُبَّابل كختم له، رمزًا لسلطته ومجده.
الرسالة اللاهوتية
يحمل سفر حَجَّاي رسالة لاهوتية قوية تدور حول أهمية إعطاء الأولوية لله في حياتنا. يعلمنا السفر أن بركة الله ورضاه لا يمكن أن يتحققا إلا عندما نضع الله في المقام الأول ونهتم ببيته. كما يؤكد السفر على أن الله يبارك أولئك الذين يطيعونه ويكافئهم بوفرة.
بالإضافة إلى ذلك، يشير السفر إلى أن الله يعمل من خلال قادة شعبه لتحقيق مقاصده. كان زَرُبَّابل أداة في يد الله لإعادة بناء الهيكل، وكان حَجَّاي أداة في يد الله لحث الشعب على العمل. يظهر السفر أن الله يستخدم أناسًا عاديين لتحقيق أمور عظيمة.
يعتبر سفر حَجَّاي أيضًا نبوة مسيانية، حيث يشير إلى مجيء المسيح الذي سيملأ الهيكل بالمجد. يعتقد بعض المفسرين أن وعد الله لزَرُبَّابل بأنه سيختاره كختم له هو نبوءة عن المسيح، الذي هو الوريث الشرعي لعرش داود.
تفسير الرسائل الأربع بالتفصيل
الرسالة الأولى (حَجَّاي 1: 1-15): يبدأ النبي حَجَّاي رسالته بتوبيخ شديد اللهجة للشعب اليهودي، من خلال التعبير عن استيائه من إهمالهم لبناء بيت الرب. يصور لهم كيف أنهم منشغلون ببناء بيوتهم الفاخرة والمريحة، بينما بيت الرب لا يزال خرابًا. “هَلِ ٱلْوَقْتُ لَكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَسْكُنُوا فِي بُيُوتِكُمُ ٱلْمُغَشَّاةِ، وَهٰذَا ٱلْبَيْتُ خَرَابٌ؟” (حَجَّاي 1: 4). ثم يحثهم على التأمل في عواقب هذا الإهمال، مذكرًا إياهم بأنهم يعانون من قلة المحصول والجفاف والفقر لأنهم لم يعطوا الأولوية لبيت الرب. “زَرَعْتُمْ كَثِيرًا وَدَخَّلْتُمْ قَلِيلًا. تَأْكُلُونَ وَلَا تَشْبَعُونَ. تَشْرَبُونَ وَلَا تَرْوُونَ. تَكْتَسُونَ وَلَا تَدْفَأُونَ. وَٱلْمُسْتَأْجِرُ يَأْخُذُ أُجْرَةً لِكِيسٍ مَنْقُوبٍ.” (حَجَّاي 1: 6). يختتم حَجَّاي هذه الرسالة بدعوة الشعب إلى الصعود إلى الجبل وإحضار الأخشاب لبناء الهيكل، واعدًا إياهم بأن الرب سيسر به ويتمجد. وقد استجاب الشعب وزَرُبَّابل ويشوع لكلام حَجَّاي، وبدأوا العمل في بناء الهيكل.
الرسالة الثانية (حَجَّاي 2: 1-9): بعد مرور شهر تقريبًا على استئناف العمل في بناء الهيكل، ألقى حَجَّاي رسالته الثانية. في هذه الرسالة، يواجه حَجَّاي مشاعر الإحباط التي انتابت بعض كبار السن الذين تذكروا مجد الهيكل الأول الذي بناه سليمان، ورأوا أن الهيكل الجديد لا يقارن بجماله وعظمته. “مَنْ بَقِيَ مِنْكُمُ ٱلَّذِي رَأَى هٰذَا ٱلْبَيْتَ فِي مَجْدِهِ ٱلْأَوَّلِ؟ وَكَيْفَ تَرَوْنَهُ ٱلْآنَ؟ أَلَيْسَ هُوَ فِي أَعْيُنِكُمْ كَلَا شَيْءٍ؟” (حَجَّاي 2: 3). يشجعهم حَجَّاي ويخبرهم بألا يخافوا، لأن الرب معهم، وهو الذي أخرجهم من مصر وأعطاهم روحه. يعدهم حَجَّاي بأن مجد الهيكل الجديد سيكون أعظم من مجد الهيكل القديم، وأن الرب سيملأه بالمجد والسلام. “لِي قَلِيلٌ بَعْدَ، فَأُزَلْزِلُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ وَٱلْبَحْرَ وَٱلْيَابِسَةَ. وَأُزَلْزِلُ كُلَّ ٱلْأُمَمِ. فَيَأْتِي شَهْوَةُ كُلِّ ٱلْأُمَمِ، فَأَمْلَأُ هٰذَا ٱلْبَيْتَ مَجْدًا، يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ.” (حَجَّاي 2: 6-7). هذه الآيات تحمل نبوءة عن مجيء المسيح، الذي سيملأ الهيكل الجديد بالمجد الحقيقي.
الرسالة الثالثة (حَجَّاي 2: 10-19): في هذه الرسالة، يتوجه حَجَّاي إلى الكهنة بسؤال عن قانون الطهارة، ويوضح لهم أن الشعب أصبح نجسًا بسبب إهمالهم لبيت الرب. يشرح لهم أنه إذا لمس شخص نجس شيئًا مقدسًا، فإنه لا يجعله مقدسًا، بل يبقى نجسًا. وبالمثل، فإن الشعب الذي كان مهملاً لبيت الرب أصبح نجسًا، وكل ما يلمسونه أصبح نجسًا أيضًا. “هٰكَذَا هٰذَا ٱلشَّعْبُ وَهٰذِهِ ٱلْأُمَّةُ قُدَّامِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَهٰكَذَا كُلُّ عَمَلِ أَيْدِيهِمْ، وَمَا يُقَرِّبُونَهُ هُوَ نَجِسٌ.” (حَجَّاي 2: 14). ثم يعدهم حَجَّاي بأنه من ذلك اليوم فصاعدًا، سيباركهم الرب، لأنهم قد تابوا وبدأوا في بناء الهيكل. “ٱجْعَلُوا قَلْبَكُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْيَوْمِ فَصَاعِدًا، مِنْ قَبْلِ وَضْعِ حَجَرٍ عَلَى حَجَرٍ فِي هَيْكَلِ ٱلرَّبِّ. مُنْذُ ذٰلِكَ ٱلْحِينِ كُنْتُمْ تَأْتُونَ إِلَى عَرَمَةِ عِشْرِينَ، فَكَانَتْ عَشَرَةً. أَتَيْتُمْ إِلَى حَوْضِ مِعْصَرَةٍ لِتَغْرُفُوا خَمْسِينَ قَدَّاحًا، فَكَانَتْ عِشْرِينَ. قَدْ ضَرَبْتُكُمْ بِٱللَّفْحِ وَبِٱلْيَرَقَانِ وَبِٱلْبَرَدِ فِي كُلِّ عَمَلِ أَيْدِيكُمْ، وَلَمْ تَرْجِعُوا إِلَيَّ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ. ٱجْعَلُوا قَلْبَكُمْ مِنْ هٰذَا ٱلْيَوْمِ فَصَاعِدًا، مِنْ يَوْمِ ٱلْأَرْبَعَةِ وَٱلْعِشْرِينَ مِنَ ٱلشَّهْرِ ٱلتَّاسِعِ، مِنْ يَوْمِ تَأَسَّسَ هَيْكَلُ ٱلرَّبِّ. ٱجْعَلُوا قَلْبَكُمْ. هَلْ ٱلْبِزْرُ بَعْدُ فِي ٱلْأَهْرَاءِ؟ بَلِ ٱٱلْكَرْمَةُ وَٱلتِّينَةُ وَٱلرُّمَّانَةُ وَٱلزَّيْتُونَةُ لَمْ تَحْمِلْ بَعْدُ. مِنْ هٰذَا ٱلْيَوْمِ أُبَارِكُ.” (حَجَّاي 2: 15-19).
الرسالة الرابعة (حَجَّاي 2: 20-23): في اليوم نفسه الذي ألقى فيه حَجَّاي رسالته الثالثة، وجه رسالة خاصة إلى زَرُبَّابل، حاكم يهوذا، وأكد له أن الرب سيقلب عروش الممالك ويهلك قوة الأمم. “هٰأَنَا أُزَلْزِلُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلْأَرْضَ، وَأَقْلِبُ عَرْشَ ٱلْمَمَالِكِ، وَأُهْلِكُ قُوَّةَ مَمَالِكِ ٱلْأُمَمِ، وَأَقْلِبُ ٱلْمَرْكَبَاتِ وَرَاكِبِيهَا، وَيَنْزِلُ ٱلْخَيْلُ وَرَاكِبُوهَا كُلُّ وَاحِدٍ بِسَيْفِ أَخِيهِ.” (حَجَّاي 2: 21-22). يختار الرب زَرُبَّابل كختم له، رمزًا لسلطته ومجده. “فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ، يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ، آخُذُكَ يَا زَرُبَّابَلَ بْنَ شَأَلْتِيئِيلَ عَبْدِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَأَجْعَلُكَ كَخَاتِمٍ، لِأَنِّي ٱخْتَرْتُكَ، يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ.” (حَجَّاي 2: 23). هذه الآية تحمل دلالات مسيانية، حيث يعتقد بعض المفسرين أن زَرُبَّابل يمثل المسيح، الذي هو الوريث الشرعي لعرش داود.
الأهمية المعاصرة
لا تزال رسالة حَجَّاي ذات صلة كبيرة بحياتنا اليوم. تعلمنا هذه الرسالة أن نعطي الأولوية لله في كل ما نفعله، وأن نهتم ببيته (الكنيسة) وبخدمة الآخرين. كما تعلمنا أن الله يبارك أولئك الذين يطيعونه ويكافئهم بوفرة. يمكننا تطبيق هذه الدروس في حياتنا اليومية من خلال تخصيص وقت للصلاة وقراءة الكتاب المقدس، والمشاركة في خدمة الكنيسة والمجتمع، وإعطاء العشور والصدقات بسخاء.
بالإضافة إلى ذلك، يمكننا أن نتعلم من حَجَّاي كيف نتشجع في أوقات الصعاب والإحباط. كان الشعب اليهودي يواجه تحديات كبيرة في إعادة بناء الهيكل، لكن حَجَّاي شجعهم وأخبرهم بأن الرب معهم، وأن مجد الهيكل الجديد سيكون أعظم من مجد الهيكل القديم. بالمثل، يمكننا أن نتشجع في أوقات الصعاب من خلال تذكر وعود الله لنا، والاعتماد على قوته، والتركيز على الهدف الأسمى في حياتنا.
خاتمة
سِفر حَجَّاي هو سفر قصير ولكنه قوي ومؤثر، يحمل رسالة مهمة عن أهمية إعطاء الأولوية لله في حياتنا والاهتمام ببيته. تعلمنا من هذا السفر أن بركة الله ورضاه لا يمكن أن يتحققا إلا عندما نضع الله في المقام الأول ونهتم ببيته. كما تعلمنا أن الله يبارك أولئك الذين يطيعونه ويكافئهم بوفرة. نسأل الله أن يساعدنا على تطبيق هذه الدروس في حياتنا اليومية وأن نعيش حياة ترضيه.