أصل العبارة وأهميتها
تظهر عبارة “Subsistit in” في وثيقة “نور الأمم” (Lumen Gentium)، وهي وثيقة أساسية حول طبيعة الكنيسة من المجمع الفاتيكاني الثاني. تحدد هذه الوثيقة طبيعة الكنيسة الكاثوليكية وعلاقتها بالكنائس الأخرى. العبارة الكاملة التي تحتوي على “Subsistit in” هي: “تستمر الكنيسة التي أسسها المسيح في هذه العالم وتوجد في الكنيسة الكاثوليكية، التي يديرها خليفة بطرس والأُسقُف الذين في شركة معه”.
تكمن أهمية هذه العبارة في تأكيدها على أن الكنيسة الكاثوليكية هي الكنيسة التي أسسها يسوع المسيح. ومع ذلك، فإن استخدام كلمة “Subsistit in” بدلاً من “هي” (est) في هذه السياق له أهمية كبيرة. فبدلاً من القول بأن الكنيسة التي أسسها المسيح “هي” الكنيسة الكاثوليكية حصراً، فإن “Subsistit in” تشير إلى أن الكنيسة المسيحية الأصلية “تستمر في” الكنيسة الكاثوليكية. هذا التمييز الدقيق يفتح الباب أمام فهم أعمق للعلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس المسيحية الأخرى.
المجمع الفاتيكاني الثاني و”نور الأمم”
المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965) كان مجمعًا مسكونيًا للكنيسة الكاثوليكية، جمع الأساقفة من جميع أنحاء العالم. كان لهذا المجمع تأثير كبير على تجديد الكنيسة الكاثوليكية في العصر الحديث. وثيقة “نور الأمم” هي واحدة من أهم الوثائق التي صدرت عن هذا المجمع.
هدفت “نور الأمم” إلى تحديث فهم الكنيسة لذاتها وعلاقتها بالعالم. تناولت الوثيقة مواضيع مثل طبيعة الكنيسة، دور المؤمنين العلمانيين، العلاقات مع الكنائس غير الكاثوليكية، والعلاقات مع الديانات غير المسيحية. ساهمت هذه الوثيقة في تغيير كبير في موقف الكنيسة الكاثوليكية تجاه العالم من حولها.
تأثير “Subsistit in” على العلاقات المسكونية
إن استخدام “Subsistit in” في “نور الأمم” كان له تأثير كبير على العلاقات المسكونية (العلاقات بين الكنائس المسيحية المختلفة). فالعبارة تشير إلى أن الكنيسة الكاثوليكية لا تدعي أنها الكنيسة الوحيدة التي يوجد فيها جميع الحقائق المسيحية. بل تعترف بوجود عناصر من الحقائق المقدسة في الكنائس الأخرى. هذا الاعتراف فتح الباب للحوار والتعاون مع الكنائس الأخرى.
قبل المجمع الفاتيكاني الثاني، كانت الكنيسة الكاثوليكية غالبًا ما تنظر إلى الكنائس غير الكاثوليكية على أنها “منفصلة” أو “خارج” الكنيسة. بينما بعد المجمع، بدأت الكنيسة الكاثوليكية في رؤية هذه الكنائس كـ “أخوات” في المسيح، على الرغم من وجود اختلافات في العقيدة والطقوس. هذا التغيير في المنظور كان له أثر كبير على تعزيز الحوار المسكوني والتعاون في مجالات مثل العمل الخيري والتبشير.
تفسير “Subsistit in”
على الرغم من أهمية “Subsistit in” في تعزيز العلاقات المسكونية، فإن تفسيرها لم يكن دائمًا سهلًا. أثار استخدام هذه العبارة نقاشات مستمرة حول كيفية فهم العلاقة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى. هناك عدة تفسيرات مقترحة:
- التفسير الكامل: يرى هذا التفسير أن الكنيسة الكاثوليكية هي الكنيسة التي أسسها المسيح في ملئها. جميع العناصر الضرورية للكنيسة الحقيقية (مثل الأسرار المقدسة، والسلطة الرسولية، والعقيدة الصحيحة) موجودة بالكامل في الكنيسة الكاثوليكية.
- التفسير الجزئي: يرى هذا التفسير أن الكنائس الأخرى لديها بعض العناصر من الكنيسة الحقيقية (مثل الكتاب المقدس، والمعمودية، وبعض الأسرار المقدسة). هذه العناصر تساعد هذه الكنائس في أن تكون وسائل للخلاص.
- التفسير الرمزي: يرى هذا التفسير أن “Subsistit in” تعني أن الكنيسة الكاثوليكية هي العلامة المرئية الأكثر وضوحًا للكنيسة المسيحية الأصلية، ولكن هذا لا ينفي وجود عناصر من الكنيسة الحقيقية في الكنائس الأخرى.
تعتمد كيفية تفسير “Subsistit in” على وجهة نظر اللاهوتي وموقفه من العلاقات المسكونية. ومع ذلك، فإن معظم اللاهوتيين الكاثوليكيين يتفقون على أن “Subsistit in” تدعو إلى الاحترام والحوار مع الكنائس الأخرى، ورفض أي شكل من أشكال التعصب أو الاستعلاء.
العناصر الموجودة في الكنائس الأخرى
تعترف الكنيسة الكاثوليكية بوجود عناصر من الحقائق المقدسة في الكنائس الأخرى. هذه العناصر تشمل:
- الكتاب المقدس: الكتاب المقدس هو كلمة الله، وهو مشترك بين جميع الكنائس المسيحية.
- المعمودية: المعمودية هي سر مقدّس يدخل المؤمنين في شركة مع المسيح.
- الأسرار المقدسة الأخرى: بعض الكنائس الأخرى تحتفل ببعض الأسرار المقدسة الأخرى، مثل القربان المقدس (العشاء الرباني).
- الإيمان بالمسيح: جميع الكنائس المسيحية تؤمن بيسوع المسيح كابن الله ومخلص العالم.
- الأعمال الصالحة: تكرس العديد من الكنائس الأخرى جهودها لأعمال المحبة والخدمة.
إن الاعتراف بهذه العناصر المشتركة هو أساس الحوار والتعاون بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى.
التحديات والفرص في الحوار المسكوني
على الرغم من التقدم الكبير في الحوار المسكوني، لا تزال هناك تحديات. تشمل هذه التحديات:
- الخلافات العقائدية: لا تزال هناك اختلافات كبيرة في العقيدة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنائس الأخرى، خاصة فيما يتعلق بدور البابا، وطبيعة الأسرار المقدسة.
- الاختلافات في الممارسات الطقسية: تختلف الممارسات الطقسية بين الكنائس المختلفة، مما قد يخلق صعوبات في التعاون.
- التعصب والتحيز: قد يؤدي التعصب والتحيز إلى عرقلة الحوار المسكوني.
ومع ذلك، هناك أيضًا فرص كبيرة للحوار المسكوني. تشمل هذه الفرص:
- التعاون في مجالات الخدمة: يمكن للكنائس المختلفة أن تتعاون في مجالات مثل العمل الخيري والتبشير.
- التعاون في الدفاع عن القيم المسيحية: يمكن للكنائس المختلفة أن تتعاون في الدفاع عن القيم المسيحية في العالم المعاصر.
- التعلم المتبادل: يمكن للكنائس المختلفة أن تتعلم من بعضها البعض، وتتبادل الأفكار والخبرات.
الخاتمة
إن عبارة “Subsistit in” هي عبارة أساسية في اللاهوت الكاثوليكي. تعبر عن فهم الكنيسة الكاثوليكية لعلاقتها بالكنائس المسيحية الأخرى. وهي تؤكد أن الكنيسة الكاثوليكية هي الكنيسة التي أسسها المسيح، بينما تعترف في الوقت نفسه بوجود عناصر من الحقائق المقدسة في الكنائس الأخرى. هذا الفهم فتح الباب للحوار المسكوني والتعاون، على الرغم من وجود تحديات مستمرة. إن “Subsistit in” تدعو إلى الاحترام المتبادل والبحث عن الوحدة في المسيح.
المراجع
- Lumen Gentium (من الموقع الرسمي للفاتيكان)
- The meaning of “Subsistit in” (مقالة من Catholic.org)
- Ecumenism: A Primer (مقالة من EWTN)
- Ecumenism (موسوعة بريتانيكا)
“`