خلفية تاريخية
نشأت الواقعية المتعالية كرد فعل على الفلسفات السائدة في ذلك الوقت، وخاصة الوضعية المنطقية والتجريبية. كانت الوضعية المنطقية ترى أن المعرفة العلمية تقتصر على الملاحظات الحسية والبيانات التجريبية، وأن أي ادعاء لا يمكن التحقق منه تجريبيًا هو مجرد هراء. أما التجريبية، فكانت تؤكد على أهمية التجربة كأداة وحيدة للمعرفة.
رفض باشكار هذه الآراء، بحجة أنها لا تأخذ في الاعتبار طبيعة العلم الحقيقية. فقد رأى أن العلم غالبًا ما يتعامل مع آليات وأسباب غير قابلة للملاحظة المباشرة، وأن التجارب غالبًا ما تتم في ظل ظروف معينة يتم التحكم فيها، مما يجعل من الصعب استخلاص استنتاجات عامة بناءً على الملاحظات التجريبية وحدها.
المبادئ الأساسية للواقعية المتعالية
تقوم الواقعية المتعالية على عدة مبادئ أساسية:
- الواقعية الوجودية: تؤكد على وجود واقع مستقل عن عقولنا وإدراكاتنا. هذا الواقع يتضمن أشياءً وعمليات وعلاقات موجودة بغض النظر عما إذا كنا نلاحظها أو لا.
- الاستراتيجية: تعترف بوجود أسباب وقوى كامنة وراء الأحداث التي نراقبها. لا يمكننا دائمًا رؤية هذه الأسباب بشكل مباشر، لكنها تؤثر على العالم وتفسر لماذا تحدث الأشياء كما تحدث.
- التميز: تفصل بين ثلاثة مجالات أساسية: المجال الحقيقي (الذي يشمل الآليات والأسباب الكامنة)، والمجال الفعلي (الذي يشمل الأحداث التي تحدث)، والمجال التجريبي (الذي يشمل ما ندركه ونختبره).
- العلم كنشاط تحويلي: العلم ليس مجرد وصف لما نراه، بل هو نشاط يهدف إلى اكتشاف وفهم الآليات والقوى الكامنة التي تعمل في العالم.
المجالات الثلاثة للواقع
كما ذكرنا سابقًا، تميز الواقعية المتعالية بين ثلاثة مجالات:
- المجال الحقيقي: هذا هو المجال الأكثر أساسية، ويشمل الهياكل والآليات والقوى التي تعمل بشكل مستقل عن إدراكنا. هذه الآليات قد تكون غير مرئية أو غير قابلة للملاحظة المباشرة.
- المجال الفعلي: هذا المجال يمثل الأحداث التي تحدث بالفعل، والتي قد تكون نتيجة لتفاعل الآليات الموجودة في المجال الحقيقي. ليس كل ما هو ممكن في المجال الحقيقي يتحقق بالضرورة في المجال الفعلي.
- المجال التجريبي: هذا المجال يشمل ما ندركه ونختبره من خلال الحواس. إنه يمثل جزءًا صغيرًا من المجالين الآخرين.
العلم والواقعية المتعالية
من وجهة نظر الواقعية المتعالية، العلم ليس مجرد جمع للملاحظات أو التجارب. بدلاً من ذلك، يهدف العلم إلى:
- تحديد الآليات: البحث عن الآليات والأسباب الكامنة التي تسبب الأحداث.
- تفسير الأحداث: شرح سبب حدوث الأحداث كما تحدث، من خلال فهم الآليات التي تعمل.
- بناء نماذج: بناء نماذج ونظريات تفسر كيفية عمل الآليات المختلفة.
- تقييم النظريات: اختبار وتقييم النظريات العلمية من خلال التجارب والملاحظات.
ترى الواقعية المتعالية أن التجارب العلمية غالبًا ما تكون معزولة ومصممة للتحكم في المتغيرات. هذا يسمح للعلماء بالتحقيق في الآليات والظواهر في بيئة يمكن فيها التحكم في العوامل الخارجية. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن العلم يقتصر على التجارب المعملية. فالواقعية المتعالية تعترف بأهمية الملاحظة الميدانية والتحليل التاريخي والمنهجيات الأخرى في البحث العلمي.
الانتقادات والمناقشات
واجهت الواقعية المتعالية العديد من الانتقادات، بما في ذلك:
- صعوبة التحقق: يرى بعض النقاد أن فكرة الآليات غير المرئية تجعل من الصعب التحقق من صحة النظريات العلمية.
- الميتافيزيقا: يزعم البعض أن الواقعية المتعالية تتجاوز حدود العلم وتدخل في نطاق الميتافيزيقا (دراسة الواقع في حد ذاته).
- التجريد: يعتقد البعض أن التركيز على الآليات المجردة يمكن أن يؤدي إلى إهمال أهمية السياق والتفاصيل التجريبية.
بالإضافة إلى ذلك، أدت الواقعية المتعالية إلى نقاشات مستمرة حول طبيعة السببية، والعلاقة بين العلم والواقع، وأهمية النظرية في البحث العلمي.
التأثير والأهمية
على الرغم من الانتقادات، تركت الواقعية المتعالية تأثيرًا كبيرًا في الفلسفة والعلوم الاجتماعية. فقد ساهمت في:
- إعادة تقييم طبيعة العلم: ساعدت في تغيير الطريقة التي نفكر بها في العلم، من مجرد جمع للمعلومات إلى عملية تسعى لفهم الآليات الكامنة.
- تطوير منهجيات جديدة: ألهمت تطوير منهجيات بحثية جديدة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مثل “الواقعية النقدية”.
- توفير إطار عمل نقدي: قدمت إطار عملًا نقديًا لتحليل النظريات العلمية والممارسات البحثية.
- إلهام حوارات متعددة التخصصات: شجعت الحوار بين الفلسفة والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية.
التطبيقات
للواقعية المتعالية تطبيقات في مجموعة واسعة من المجالات، بما في ذلك:
- العلوم الاجتماعية: استخدمت لتحليل الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفهم الآليات التي تؤثر على سلوك الأفراد والمجتمعات.
- الاقتصاد: ساهمت في تطوير نماذج اقتصادية أكثر واقعية، تأخذ في الاعتبار العوامل المؤسسية والثقافية.
- العلوم السياسية: استخدمت لتحليل القوة والسلطة والعلاقات الدولية.
- التعليم: ساعدت في تطوير مناهج تعليمية تركز على فهم الآليات والعلاقات بدلاً من مجرد حفظ الحقائق.
- العلوم الطبيعية: على الرغم من أنها فلسفة في المقام الأول، فقد أثرت في كيفية فهم العلماء لعملهم وتفسير النتائج.
الواقعية المتعالية والعلوم الاجتماعية
تعتبر الواقعية المتعالية مهمة بشكل خاص للعلوم الاجتماعية لأنها تقدم بديلاً للتجريبية والوضعية التي سادت لفترة طويلة. وتشجع الباحثين في العلوم الاجتماعية على:
- التحقيق في الآليات: البحث عن الآليات التي تكمن وراء الأحداث والظواهر الاجتماعية.
- فهم السياق: إدراك أن الأحداث الاجتماعية تتأثر بالسياق التاريخي والثقافي والمؤسسي.
- الاعتراف بالبنية: فهم أن المجتمعات منظمة وفقًا لهياكل معينة، مثل الطبقات الاجتماعية والمؤسسات.
- تطوير نظريات شاملة: بناء نظريات تأخذ في الاعتبار مجموعة متنوعة من العوامل، بدلاً من التركيز على متغير واحد أو عدد قليل من المتغيرات.
على سبيل المثال، في دراسة الفقر، قد لا تقتصر الواقعية المتعالية على تحليل البيانات الإحصائية حول معدلات الفقر. بدلاً من ذلك، ستحاول تحديد الآليات التي تسبب الفقر، مثل التمييز، والافتقار إلى التعليم، والظلم الهيكلي، والسياسات الحكومية.
الواقعية المتعالية والاقتصاد
في مجال الاقتصاد، تقدم الواقعية المتعالية نقدًا للاقتصاد النيوكلاسيكي التقليدي، الذي غالبًا ما يعتمد على افتراضات غير واقعية حول السلوك البشري والعقلانية. وبدلاً من ذلك، تشجع الواقعية المتعالية على:
- الاعتراف بالتعقيد: إدراك أن الاقتصاد نظام معقد، يتأثر بمجموعة واسعة من العوامل، بما في ذلك المؤسسات والثقافة والسياسة.
- التركيز على المؤسسات: دراسة دور المؤسسات (مثل البنوك والأسواق والشركات) في تشكيل السلوك الاقتصادي.
- النظر في القوة: فهم أن القوة تلعب دورًا مهمًا في الاقتصاد، وأن بعض الجماعات تتمتع بسلطة أكبر من غيرها.
- تطوير نماذج أكثر واقعية: بناء نماذج اقتصادية تأخذ في الاعتبار العوامل الواقعية التي تؤثر على السلوك الاقتصادي.
الواقعية المتعالية والفلسفة
تعتبر الواقعية المتعالية فلسفة معقدة ومتطورة، وقد أثرت على العديد من التيارات الفلسفية. فهي تجمع بين الواقعية (الإيمان بوجود واقع مستقل) والوضوح (التأكيد على أهمية الفهم العلمي) والتاريخانية (الاعتراف بأهمية السياق التاريخي). كما أنها تتصل بالفلسفة النقدية، التي تسعى إلى تحليل افتراضاتنا ومعتقداتنا وتحديها.
تستمر الواقعية المتعالية في التطور والتكيف مع التحديات الجديدة. وقد تم تطوير العديد من الإصدارات المختلفة، بما في ذلك الواقعية النقدية، والواقعية البنائية، والواقعية المعقدة. وتشكل هذه الإصدارات جزءًا من حوار مستمر حول طبيعة الواقع والمعرفة والعلم.
الخلاصة
الواقعية المتعالية هي فلسفة علمية مهمة تقدم رؤية بديلة للعلم والواقع. تؤكد على وجود واقع مستقل، وأهمية الآليات الكامنة، والحاجة إلى فهم أعمق لطبيعة العالم. على الرغم من الانتقادات التي وجهت إليها، فقد تركت الواقعية المتعالية تأثيرًا كبيرًا في مجالات الفلسفة والعلوم الاجتماعية، وما زالت تثير النقاشات وتلهم البحث العلمي.
المراجع
- Bhaskar, R. (1975). A Realist Theory of Science.
- Bhaskar, R. (1978). The Possibility of Naturalism.
- Archer, M. S. (1995). Realist Social Theory: The Morphogenetic Approach.
- Collier, A. (1994). Critical Realism: An Introduction to Roy Bhaskar’s Philosophy.
“`