مقدمة
سفر إشعيا هو السفر الأول من بين الأنبياء المتأخرين في التناخ (الكتاب المقدس العبري) والأول من بين الأنبياء الكبار في العهد المسيحي القديم. يُنسب السفر تقليديًا إلى النبي إشعيا الذي عاش في القرن الثامن قبل الميلاد في مملكة يهوذا. ومع ذلك، يعتقد العديد من العلماء المعاصرين أن السفر قد كُتب على مدى فترة زمنية أطول، ربما على مدى ثلاثة قرون، وأن أقسامًا مختلفة منه قد كُتبت بواسطة مؤلفين مختلفين.
يتميز سفر إشعيا بغناه اللغوي والشعري، ويتناول مواضيع متنوعة مثل الدينونة الإلهية، والخلاص، والأمل في المستقبل، ودور إسرائيل بين الأمم. يُعتبر السفر من أهم المصادر لفهم الفكر الديني والأخلاقي في فترة ما قبل السبي البابلي وما بعده.
هيكل السفر
يمكن تقسيم سفر إشعيا إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
- إشعيا الأول (الفصول 1-39): يركز هذا القسم على نبوات إشعيا الأصلية في القرن الثامن قبل الميلاد، ويتناول قضايا الدينونة والخلاص المتعلقة بمملكة يهوذا وأورشليم. ويتضمن تحذيرات من الظلم الاجتماعي والعبادة الشكلية، ودعوات إلى التوبة والعودة إلى الله.
- إشعيا الثاني (الفصول 40-55): يُعرف هذا القسم أيضًا باسم “سفر العزاء”، ويتناول فترة السبي البابلي ويقدم رسالة أمل ورجاء للمسبيين. ويؤكد على قدرة الله على خلاص شعبه وإعادته إلى أرضه. كما يقدم شخصية “عبد الرب” الذي سيحقق خلاص إسرائيل والأمم.
- إشعيا الثالث (الفصول 56-66): يركز هذا القسم على فترة ما بعد السبي ويتناول قضايا إعادة بناء المجتمع وإقامة العدل والبر. ويتضمن نبوات عن المستقبل المجيد لأورشليم ودعوة للأمم للانضمام إلى عبادة الله.
مواضيع رئيسية في سفر إشعيا
يتناول سفر إشعيا مجموعة واسعة من المواضيع الدينية والأخلاقية والاجتماعية، ومن أهمها:
القداسة الإلهية
يؤكد السفر على قداسة الله وعظمته وجلاله. يظهر الله ككائن متعال ومنزه عن كل نقص، وفي الوقت نفسه قريب من شعبه ومشارك في حياتهم. إن رؤية إشعيا لله في الهيكل (إشعيا 6) هي مثال كلاسيكي على تجربة القداسة الإلهية التي تؤثر على حياة النبي وتوجه رسالته.
الدينونة والخلاص
يعرض السفر الدينونة الإلهية كعقاب على الخطية والظلم، والخلاص كهدية مجانية من الله لمن يتوبون ويعودون إليه. الدينونة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتطهير المجتمع وإعادته إلى طريق الحق. الخلاص ليس مجرد تحرير من العقاب، بل هو تجديد للحياة وعلاقة جديدة مع الله.
العدل الاجتماعي
يدعو السفر إلى إقامة العدل والإنصاف في المجتمع، وحماية الفقراء والمظلومين. ينتقد إشعيا بشدة الظلم الاجتماعي والفساد السياسي والعبادة الشكلية التي تخلو من المضمون الأخلاقي. يرى أن الدين الحقيقي يجب أن يتجسد في سلوك الفرد وعلاقته بالآخرين.
الأمل في المستقبل
يقدم السفر رسالة أمل ورجاء في المستقبل، ويتنبأ بقدوم عصر ذهبي يسود فيه السلام والعدل والبر. يركز على دور إسرائيل كشعب مختار لتحقيق هذه الغاية، وعلى أهمية العهد بين الله وإسرائيل. تتضمن هذه النبوات صورًا رائعة عن أورشليم الجديدة التي ستكون نورًا للأمم ومركزًا للعبادة الحقيقية.
عبد الرب
تُعتبر أغاني عبد الرب (إشعيا 42: 1-4؛ 49: 1-6؛ 50: 4-9؛ 52: 13-53: 12) من أهم النصوص في سفر إشعيا. تتحدث هذه الأغاني عن شخصية غامضة تُدعى “عبد الرب” الذي سيتألم ويتعذب من أجل خطايا شعبه، ثم ينتصر ويحقق الخلاص لإسرائيل والأمم. وقد تم تفسير هذه الأغاني بطرق مختلفة، حيث يرى البعض أنها تشير إلى إسرائيل كأمة، بينما يرى البعض الآخر أنها تتنبأ بشخص المسيح.
تفسيرات سفر إشعيا
تم تفسير سفر إشعيا بطرق متنوعة عبر التاريخ، ويمكن التمييز بين عدة اتجاهات رئيسية في تفسير السفر:
- التفسير اليهودي: يركز التفسير اليهودي على المعنى الحرفي للنص، ويسعى إلى فهم السفر في سياقه التاريخي والثقافي الأصلي. يعتبر السفر جزءًا من التناخ (الكتاب المقدس العبري) ويؤكد على أهمية الشريعة والعهد بين الله وإسرائيل.
- التفسير المسيحي: يرى التفسير المسيحي أن سفر إشعيا يتنبأ بشخص المسيح وحياته وموته وقيامته. يعتبر أن أغاني عبد الرب تشير إلى المسيح، وأن العديد من النبوات الأخرى في السفر قد تحققت فيه.
- التفسير النقدي: يركز التفسير النقدي على تحليل النص من وجهة نظر تاريخية ولغوية وأدبية. يسعى إلى فهم كيفية تأليف السفر وتطوره عبر الزمن، وتحديد مصادر النص وتأثيراته.
- التفسير النسوي: يركز التفسير النسوي على تحليل السفر من وجهة نظر نسوية، ويسعى إلى فهم كيفية تصوير النساء في النص، وكيفية تأثير السفر على حياة النساء في الماضي والحاضر.
أهمية سفر إشعيا
يُعتبر سفر إشعيا من أهم الأسفار في الكتاب المقدس، وذلك للأسباب التالية:
- غناه اللاهوتي: يقدم السفر رؤية عميقة عن طبيعة الله وعلاقته بالبشر، ويتناول مواضيع مهمة مثل القداسة الإلهية والدينونة والخلاص والعدل الاجتماعي.
- جماله الأدبي: يتميز السفر بلغة شعرية رائعة وصور بليغة، مما يجعله من أجمل النصوص الأدبية في الكتاب المقدس.
- تأثيره التاريخي: كان لسفر إشعيا تأثير كبير على الفكر الديني والأخلاقي في اليهودية والمسيحية، ولا يزال يلهم الناس في جميع أنحاء العالم.
- أهميته النبوية: تعتبر العديد من النبوات في سفر إشعيا ذات أهمية كبيرة في فهم تاريخ الخلاص، وخاصة فيما يتعلق بشخص المسيح ودوره في تحقيق الخلاص.
خاتمة
سفر إشعيا هو سفر عظيم الأهمية في الكتاب المقدس، يتميز بغناه اللاهوتي وجماله الأدبي وتأثيره التاريخي. يتناول السفر مواضيع متنوعة مثل الدينونة والخلاص والعدل الاجتماعي والأمل في المستقبل، ويقدم رؤية عميقة عن طبيعة الله وعلاقته بالبشر. سواء تم تفسيره من وجهة نظر يهودية أو مسيحية أو نقدية، يظل سفر إشعيا مصدر إلهام وهداية للناس في جميع أنحاء العالم.