السياق العام
لكي نفهم متى 12:10 بشكل صحيح، من الضروري أن نضعها في سياقها العام. يروي إنجيل متى قصة حياة يسوع، منذ ولادته إلى صعوده. يتضمن هذا السرد تعليم يسوع، معجزاته، وصلبه، وقيامته. الإصحاح 12 على وجه الخصوص يركز على سلسلة من المواجهات بين يسوع والفريسيين والكتبة، الذين كانوا يتحدونه باستمرار ويسعون لإيجاد أخطاء في أقواله وأفعاله.
يبدأ الإصحاح بوصف يسوع وتلاميذه وهم يمرون بحقول القمح في يوم سبت، حيث التقطوا سنابل وأكلوها، مما أثار استياء الفريسيين الذين اتهموهم بخرق السبت. يدافع يسوع عن تلاميذه بالإشارة إلى أمثلة من العهد القديم، مثل فعل داود والرجال الذين معه عندما أكلوا خبز الوجوه.
ثم ينتقل الإصحاح إلى معجزة أخرى، وهي شفاء رجل في المجمع الذي كان لديه يد يابسة. هذه المعجزة هي التي تسبق مباشرة متى 12:10، حيث كانت هذه الحادثة نقطة محورية في الخلاف المستمر بين يسوع والقادة الدينيين. في هذا السياق، يسلط متى 12:10 الضوء على موقفهم ورد فعلهم على شفاء يسوع للرجل في يوم السبت.
متى 12:10 – النص والتحليل
النص الكامل لمتى 12:10 هو:
“وَإِذَا رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ. فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «هَلْ يَحِلُّ إِشْفَاءُ الأَمْرَاضِ فِي السَّبْتِ؟» لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ.”
هذا المقطع يصف وصول رجل لديه يد يابسة إلى المجمع. هذا الرجل كان في حاجة ماسة إلى الشفاء، وكانت حالته تمثل تحديًا ليسوع. السؤال الذي طرحه الفريسيون ليس سؤالاً بريئًا، بل كان محاولة واضحة لإحراج يسوع. لقد كانوا يراقبون يسوع عن كثب، ويبحثون عن أي سبب لاتهامه بخرق وصاياهم.
تحليل النص:
- “وَإِذَا رَجُلٌ يَدُهُ يَابِسَةٌ”: هذا الوصف يصف الحالة الجسدية للرجل، وهي حالة تتطلب الشفاء. يوضح هذا أن الرجل كان يعاني من مشكلة صحية حقيقية.
- “فَسَأَلُوهُ قَائِلِينَ: «هَلْ يَحِلُّ إِشْفَاءُ الأَمْرَاضِ فِي السَّبْتِ؟»”: هذا هو السؤال الذي طرحه الفريسيون. السؤال يركز على مسألة الالتزام بالسبت. كانت الشريعة اليهودية تحدد العديد من القيود على العمل في يوم السبت. رأى الفريسيون أن شفاء الرجل في السبت عمل غير مسموح به.
- “لِكَيْ يَشْتَكُوا عَلَيْهِ”: هذه العبارة تكشف عن الدافع الحقيقي وراء سؤالهم. لم يكن الفريسيون مهتمين بحقيقة الرجل أو راحته. كان هدفهم الرئيسي هو إيجاد طريقة لإدانة يسوع.
يوضح هذا النص الصراع المستمر بين يسوع والفريسيين حول تفسير الشريعة. كان الفريسيون مهتمين بالالتزام الحرفي بالقانون، بينما كان يسوع يركز على أهمية الرحمة والرعاية الإنسانية. بالنسبة ليسوع، كانت مصلحة الإنسان تفوق قيود السبت. يوضح هذا النص أن يسوع لم يعارض السبت في حد ذاته، بل عارض تفسير الفريسيين الضيق له.
مواقف يسوع من الشريعة
يتضح من خلال هذا المقطع موقف يسوع من الشريعة. لم يأت يسوع لإلغاء الشريعة، بل لإكمالها. هذا يعني أنه لم يعارض الشريعة في جوهرها، ولكنه قدم تفسيرًا جديدًا لها، يؤكد على أهمية المحبة والرحمة. رأى يسوع أن الشريعة يجب أن تخدم الإنسان، وليس العكس.
في هذا المقطع، يظهر يسوع اهتمامه بالإنسان المريض، ويسعى لشفائه حتى في يوم السبت. يؤكد هذا على أن رحمة يسوع تجاوزت أي قيود أو قواعد قانونية. بالنسبة ليسوع، كانت احتياجات الإنسان تتقدم على أي اعتبارات أخرى.
يوضح هذا الموقف أن يسوع لم يكن يتبع تقاليد الفريسيين في تفسير الشريعة. لقد رفض تفسيرهم الضيق، الذي ركز على القواعد والطقوس، وركز بدلاً من ذلك على أهمية المحبة والرحمة والإحسان. أكد يسوع على أن السبت قد خُلق للإنسان، وليس الإنسان للسبت (مرقس 2:27).
رد فعل يسوع
بعد أن طرح الفريسيون هذا السؤال، يصف الإصحاح رد فعل يسوع. في متى 12:11-12، يطرح يسوع سؤالاً مضادًا: “فَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ لَهُ خَرُوفٌ وَقَدْ سَقَطَ هَذَا فِي السَّبْتِ فِي حُفْرَةٍ، أَفَلاَ يُمْسِكُهُ وَيُقِيمُهُ؟ فَكَمِ الإِنْسَانُ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ! إِذًا يَحِلُّ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي السَّبْتِ.”
باستخدام هذا المثال، يوضح يسوع أن الفريسيين أنفسهم سيفعلون ما هو ضروري لإنقاذ حيواناتهم، حتى في يوم السبت. إذا كانوا سيعتنون بحيواناتهم، فكم بالحري يجب أن يعتنوا بالإنسان؟
رد فعل يسوع يدل على إدانة ضمنية لتفكير الفريسيين. لقد أوضح لهم أنهم يضعون القواعد فوق الإنسان. لقد أبرز أيضًا أن شفاء الرجل في السبت كان عملًا صالحًا، يتوافق مع روح الشريعة. يؤكد هذا على أن الشريعة يجب أن تُفهم في سياق المحبة والرحمة، وليس كقائمة جامدة من القواعد.
الأهمية اللاهوتية
متى 12:10 له أهمية لاهوتية كبيرة. إنه يوضح طبيعة يسوع كشخصية رحيمة ورعوية. يظهر يسوع في هذا المقطع كشخص يضع احتياجات الآخرين فوق أي اعتبارات أخرى. هذا يعكس صفات الله، الذي يهتم بجميع خلقه.
يوضح هذا المقطع أيضًا أهمية تفسير الشريعة بشكل صحيح. يسوع يدعو إلى تفسير يركز على المحبة والرحمة، وليس على القواعد الجامدة. هذا يمثل تحديًا للمواقف الدينية التقليدية، ويحث المؤمنين على النظر إلى جوهر الشريعة، وليس فقط إلى الحرفية.
بالإضافة إلى ذلك، يؤكد هذا المقطع على أهمية فعل الخير في جميع الأوقات. يؤكد يسوع أن فعل الخير، حتى في يوم السبت، مسموح به بل هو أمر مطلوب. هذا يوضح أن الإيمان يجب أن يظهر من خلال الأفعال، وليس فقط من خلال الأقوال.
التطبيق العملي
يمكن تطبيق دروس متى 12:10 في حياتنا اليومية. إنه يدعونا إلى:
- إعطاء الأولوية لاحتياجات الآخرين: يجب أن نكون مستعدين لمساعدة الآخرين، بغض النظر عن الظروف. يجب أن نضع احتياجاتهم فوق مصالحنا الشخصية.
- تفسير القواعد والتقاليد بروح المحبة: يجب ألا نلتزم بالقواعد والتقاليد بشكل أعمى. يجب أن نفهمها في سياق المحبة والرحمة.
- إظهار الإيمان من خلال الأفعال: يجب أن نظهر إيماننا من خلال أفعالنا. يجب أن نكون مستعدين لتقديم المساعدة للآخرين، والتصرف بشكل رحيم في جميع الأوقات.
متى 12:10 يذكرنا بأهمية أن نكون رحماء ومحبين، وأن نضع احتياجات الآخرين فوق أي اعتبارات أخرى. إنه دعوة لنا لاتباع مثال يسوع في حياتنا.
مقارنات مع الأناجيل الأخرى
يُروى هذا الحدث أيضًا في إنجيل مرقس (3:1-6) وإنجيل لوقا (6:6-11). على الرغم من وجود بعض الاختلافات الطفيفة في التفاصيل، فإن الجوهر العام للسرد هو نفسه في جميع الأناجيل الثلاثة. هذه المقارنات تساعدنا على فهم أعمق للحدث وتقدير أهميته.
على سبيل المثال، يركز إنجيل مرقس على غضب يسوع وحزنه بسبب قسوة قلوب الفريسيين. يسلط إنجيل لوقا الضوء على مراقبة الفريسيين ليسوع عن كثب. من خلال مقارنة هذه الروايات، يمكننا الحصول على فهم أكثر شمولاً لهذا الحدث التاريخي.
خاتمة
متى 12:10 هو مقطع مهم في إنجيل متى، ويوضح الصراع بين يسوع والفريسيين حول تفسير الشريعة. يظهر يسوع في هذا المقطع كشخص رحيم، يضع احتياجات الآخرين فوق القواعد والقيود. يوضح المقطع أهمية المحبة والرحمة، ويدعونا إلى إعطاء الأولوية لاحتياجات الآخرين في حياتنا. من خلال دراسة هذا المقطع، يمكننا أن نفهم بشكل أفضل موقف يسوع من الشريعة، وأهمية تطبيق مبادئ الإيمان في حياتنا اليومية.