السياق العام لمتى 10
لكي نفهم متى 10:39 بشكل صحيح، يجب أن نضعها في سياقها الأوسع، وهو الإصحاح العاشر من إنجيل متى. في هذا الإصحاح، يرسل يسوع تلاميذه الاثني عشر ليبشروا ويشفوا المرضى. يعطي يسوع تلاميذه تعليمات مفصلة حول كيفية القيام بهذه المهمة، محذرًا إياهم من المصاعب التي قد يواجهونها. يوضح لهم أنهم سيواجهون اضطهادًا ومعارضة، وأنهم سيحتاجون إلى أن يكونوا مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل الإنجيل.
في هذا الإطار، يلقي يسوع الضوء على العلاقة بين اتباعه والحياة الأبدية. إنه يعلمهم أنهم يجب أن يضعوا الإنجيل في المقام الأول، وأن يكونوا مستعدين لفقدان حياتهم في هذه الدنيا من أجل اكتساب الحياة الأبدية. متى 10:39 هي جزء من هذه التعليمات، وهي تلخص جوهر التحدي الذي يواجهه المؤمنون.
معنى الآية
تنص متى 10:39 على ما يلي: “من وجد حياته يضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها.” هذه الآية تتضمن مفارقة. من ناحية، يبدو أنها تدعو إلى التضحية بالنفس. من ناحية أخرى، تعد بالحياة الأبدية لمن يضحون بحياتهم من أجل المسيح.
لفهم هذه المفارقة، يجب أن ندرك أن “الحياة” في هذه الآية تشير إلى الحياة الدنيوية، أي الحياة في هذا العالم. إنها تشمل كل ما نملكه، من ممتلكاتنا إلى علاقاتنا، وحتى حياتنا نفسها. عندما يقول يسوع أن من “وجد حياته يضيعها”، فهو يشير إلى أولئك الذين يسعون إلى الحفاظ على حياتهم الدنيوية بأي ثمن، الذين يضعون مصالحهم الشخصية فوق كل شيء آخر. هؤلاء الناس يضيعون حياتهم في النهاية، لأنهم يفقدون فرصة اكتساب الحياة الأبدية.
وعلى النقيض من ذلك، عندما يقول يسوع أن من “أضاع حياته من أجلي يجدها”، فهو يشير إلى أولئك الذين هم على استعداد للتضحية بحياتهم الدنيوية من أجل المسيح. هؤلاء الناس يختارون أن يضعوا الإنجيل في المقام الأول، وأن يكونوا مستعدين لمواجهة الاضطهاد والمعارضة، وحتى الموت، من أجل الإيمان. على الرغم من أنهم قد يبدون وكأنهم يخسرون حياتهم في هذه الدنيا، إلا أنهم في الحقيقة يكتسبون الحياة الأبدية.
هذا المفهوم ليس بالضرورة دعوة إلى الانتحار. بدلاً من ذلك، هو دعوة إلى العيش بحياة مكرسة للمسيح، حتى لو كان ذلك يعني مواجهة صعوبات. إنها دعوة إلى وضع قيم الإنجيل فوق كل شيء آخر، والعيش بحياة تتسم بالإيمان والتضحية والخدمة.
أبعاد لاهوتية
متى 10:39 تحمل أبعادًا لاهوتية عميقة. فهي تعكس طبيعة التضحية في جوهر الديانة المسيحية. يجسد يسوع المسيح نفسه هذا المبدأ من خلال موته على الصليب من أجل خطايا البشر. من خلال التضحية بحياته، قدم يسوع طريقًا للخلاص والحياة الأبدية لكل من يؤمن به.
الآية تؤكد أيضًا على أهمية الإيمان. إنها تشير إلى أن الإيمان ليس مجرد قبول فكري لبعض الحقائق، بل هو التزام كامل للحياة، يتطلب استعدادًا للتضحية. يجب على المؤمن أن يثق في وعود الله، حتى عندما يبدو أن الأمور تسير ضده. الإيمان هو الذي يمكّن المؤمن من أن يختار الحياة الأبدية على حساب الحياة الدنيوية.
علاوة على ذلك، تؤكد الآية على أهمية التبعية ليسوع المسيح. اتباع المسيح ليس مجرد قبول لتعاليمه، بل هو اتباع لنموذجه في الحياة. هذا يعني أن المؤمن يجب أن يكون مستعدًا للتضحية بنفسه، وأن يخدم الآخرين، وأن يحب حتى أعدائه. إنها عملية مستمرة من النمو الروحي، حيث يسعى المؤمن إلى أن يصبح أكثر شبهاً بالمسيح.
التأثير على المؤمنين
متى 10:39 لها تأثير عميق على المؤمنين عبر العصور. لقد ألهمت عددًا لا يحصى من الأشخاص للتضحية بحياتهم من أجل الإنجيل، من الشهداء الأوائل إلى المبشرين في العصر الحديث. لقد ساعدت المؤمنين على مواجهة الشدائد بثقة وشجاعة، مع العلم أنهم يحصلون على مكافأة أبدية في السماء.
تشجع الآية المؤمنين على إعادة تقييم أولوياتهم. فهي تدعوهم إلى التفكير في ما هو مهم حقًا في الحياة، وما إذا كانوا يعيشون حياة تخدم المسيح أم لا. كما أنها تشجعهم على عيش حياة مكرسة. هذا يعني تخصيص الوقت للصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والخدمة للآخرين، والشهادة للإنجيل.
علاوة على ذلك، تساعد الآية المؤمنين على مواجهة الخوف من الموت. عندما يدركون أنهم سيحصلون على الحياة الأبدية، فإنهم يصبحون أقل خوفًا من الموت. بدلاً من ذلك، ينظرون إلى الموت على أنه بوابة إلى الحياة الأبدية، حيث سيجتمعون بالمسيح. هذا المنظور يمنحهم السلام والراحة في مواجهة الشدائد.
تطبيقات عملية
يمكن تطبيق متى 10:39 في جوانب مختلفة من الحياة اليومية للمؤمن. على سبيل المثال:
- في العلاقات: قد يعني هذا أن تكون مستعدًا للتضحية بوقتك ومواردك من أجل أحبائك، أو أن تسامح أولئك الذين أخطأوا في حقك.
- في العمل: قد يعني هذا أن تكون صادقًا وأمينًا في عملك، حتى لو كان ذلك يعني خسارة المال أو الفرص.
- في المجتمع: قد يعني هذا أن تخدم الآخرين، وأن تدافع عن العدالة، وأن تكون صوتًا للضعفاء.
- في الحياة الروحية: قد يعني هذا أن تضع علاقتك بالمسيح في المقام الأول، وأن تكون مستعدًا للتضحية بأي شيء يعيق نموك الروحي.
باختصار، متى 10:39 تدعونا إلى العيش بحياة مكرسة للمسيح في كل جانب من جوانب حياتنا. إنها دعوة إلى وضع قيم الإنجيل في المقام الأول، وأن نكون مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل اكتساب الحياة الأبدية.
متى 16:24-26: آية ذات صلة
لتعزيز فهمنا لمتى 10:39، يمكننا أن ننظر إلى آية ذات صلة في إنجيل متى، وهي متى 16:24-26. يقول يسوع في هذه الآيات:
“حينئذ قال يسوع لتلاميذه: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني. فإن من أراد أن يخلص نفسه يخسرها، ومن يخسر نفسه من أجلي يجدها. لأنه ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟”
في هذه الآيات، يوضح يسوع أن التبعية له تتطلب إنكار الذات وحمل الصليب. إنكار الذات يعني التخلي عن رغباتنا وأهدافنا الشخصية، ووضع إرادة الله في المقام الأول. حمل الصليب يعني الاستعداد للمعاناة والاضطهاد من أجل الإيمان. يؤكد يسوع أيضًا على نفس المفارقة التي وردت في متى 10:39: أن من أراد أن يخلص نفسه يخسرها، ومن يخسر نفسه من أجله يجدها.
يعزز هذا المقطع من إنجيل متى الرسالة التي وردت في متى 10:39، ويوضح أن التضحية بالنفس هي جزء لا يتجزأ من التبعية ليسوع المسيح. إنه يوضح أن الحياة الأبدية لا يمكن اكتسابها إلا من خلال وضع الإنجيل في المقام الأول، والاستعداد للتخلي عن كل شيء من أجل المسيح.
المنظور اللاهوتي لـ “إيجاد الحياة”
عندما نتحدث عن “إيجاد الحياة” في سياق متى 10:39، يجب أن نفهمها من منظور لاهوتي. لا تشير “الحياة” هنا إلى مجرد الوجود الفيزيائي، بل تشير إلى الحياة الأبدية، وهي الحياة التي تتجاوز الموت الجسدي. هذه الحياة هي هبة من الله، تُمنح لمن يؤمنون بيسوع المسيح.
تتميز الحياة الأبدية بما يلي:
- العلاقة بالله: تعني أن نكون في علاقة حميمة مع الله، وأن نعرفه ونحبه.
- السلام والراحة: تعني التمتع بالسلام الداخلي والراحة، حتى في مواجهة الشدائد.
- الفرح والبهجة: تعني التمتع بالفرح والبهجة الدائمين، والتمتع بملذات الحياة.
- الخلود: تعني العيش إلى الأبد في حضرة الله.
من خلال التضحية بالحياة الدنيوية من أجل المسيح، نكتسب هذه الحياة الأبدية. هذا يعني أننا نختار أن نعيش بحياة تخدم الله، وأن نضع إرادته في المقام الأول. هذا الاختيار هو الذي يؤدي إلى الحياة الأبدية.
التحديات والفوائد
إن تبني مبدأ متى 10:39 يمثل تحديًا كبيرًا. قد يواجه المؤمنون الاضطهاد، والتمييز، والصعوبات المالية، وحتى الموت. ومع ذلك، فإن الفوائد التي تأتي مع هذا الالتزام تفوق بكثير التحديات. إنهم يحصلون على:
- السلام الداخلي: معرفة أنهم يعيشون حياة ترضي الله.
- الشجاعة: القدرة على مواجهة الشدائد بثقة وشجاعة.
- الفرح: القدرة على التمتع بالحياة حتى في أحلك الأوقات.
- الحياة الأبدية: ضمان الحياة الأبدية مع الله.
الالتزام بمتى 10:39 يعني اتخاذ قرار صعب. ومع ذلك، فإن المكافآت عظيمة. إنها طريقة للعيش بحياة ذات معنى وهدف، والتأكد من أننا نعيش الحياة التي أرادنا الله أن نحياها.
خاتمة
متى 10:39 هي آية قوية تدعونا إلى التفكير في معنى حياتنا. إنها تدعونا إلى وضع الإنجيل في المقام الأول، وأن نكون مستعدين للتضحية بكل شيء من أجل المسيح. على الرغم من أن هذا قد يبدو صعبًا، إلا أنه يؤدي إلى الحياة الأبدية والفرح والملء الحقيقي للحياة. من خلال فهم سياق الآية، ومعناها اللاهوتي، وتأثيرها على المؤمنين، يمكننا أن نفهم كيف يمكن لهذه الآية أن تغير حياتنا وتمنحنا هدفًا أسمى.