السياق العام
يأتي متى 10:8 ضمن سياق إرسال يسوع لتلاميذه. في الأصحاح العاشر، يستدعي يسوع تلاميذه الاثني عشر ويعطيهم السلطان لطرد الأرواح الشريرة وشفاء المرضى وإقامة الموتى وتطهير البرص. يعطي يسوع تلاميذه تعليمات محددة بشأن كيفية القيام بهذه الخدمة، وما يجب عليهم أن يحملوه معهم، وكيف يجب أن يتصرفوا. يوضح يسوع أن هذه المهمة لن تكون سهلة، وأنهم سيواجهون معارضة واضطهادًا. ومع ذلك، يؤكد لهم أنهم مدعوون إلى مشاركة في عمل الله ونشر ملكوته.
تحليل الآية
الآية نفسها تقول: “اشفوا المرضى، طهروا البرص، أقيموا الموتى، اخرجوا الشياطين. مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا.” لنحلل كل جزء من هذه الآية:
- “اشفوا المرضى”: هذا الأمر يدل على أن التلاميذ لديهم القدرة على الشفاء. لم يكن الشفاء مقتصراً على يسوع فقط، بل امتد ليشمل تلاميذه. هذا يظهر رحمة الله وقدرته على تغيير معاناة البشر.
- “طهروا البرص”: في ذلك الوقت، كان البرص يعتبر مرضاً مميتاً ومخيفاً، وكان المصابون به يعزلون عن المجتمع. إعطاء التلاميذ القدرة على تطهير البرص يدل على أنهم قادرون على استعادة الصحة والاندماج الاجتماعي، بالإضافة إلى الشفاء الجسدي.
- “أقيموا الموتى”: هذه القدرة هي دليل على قوة الله المطلقة على الحياة والموت. إحياء الموتى ليس مجرد عمل من أعمال الرحمة، بل هو إعلان عن ملكوت الله وقدرته على تغيير كل شيء.
- “اخرجوا الشياطين”: يعكس هذا الأمر صراعاً روحياً. يعطي يسوع تلاميذه السلطان على الأرواح الشريرة، مما يدل على أن ملكوت الله يتغلب على مملكة الظلام.
- “مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا”: هذه العبارة هي جوهر الآية. يوضح يسوع أن الهدايا التي تلقاها التلاميذ، مثل القدرة على الشفاء وإخراج الشياطين، قد أعطيت لهم مجاناً. لذلك، يجب عليهم أن يعطوا هذه الهدايا للآخرين مجاناً، دون طلب أي مقابل مادي. هذه الرسالة تدعو إلى الكرم والتواضع والخدمة غير الأنانية.
المعنى الروحي
تحمل هذه الآية معانٍ روحية عميقة. إنها تدعو إلى:
- الرحمة والشفقة: يجب على المؤمنين أن يظهروا الرحمة والشفقة للآخرين، وأن يسعوا لتخفيف معاناتهم الجسدية والروحية.
- التواضع: يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الهدايا التي لديهم تأتي من الله، وأنهم ليسوا شيئاً في أنفسهم. يجب عليهم أن يعطوا مجاناً، دون أن يتوقعوا أي مقابل.
- الخدمة: يجب على المؤمنين أن يخدموا الآخرين بأي طريقة ممكنة، وأن يكونوا مستعدين للتضحية بأنفسهم من أجل خدمة الله والآخرين.
- الثقة في الله: يجب على المؤمنين أن يثقوا في الله، وأن يعلموا أنه سيوفر لهم كل ما يحتاجون إليه، وأنهم ليسوا بحاجة إلى القلق بشأن احتياجاتهم المادية.
المعنى العملي
بالإضافة إلى المعنى الروحي، تحمل هذه الآية أيضًا معانٍ عملية يمكن تطبيقها في حياتنا اليومية:
- التعاطف: يجب أن نتعاطف مع الآخرين ونحاول أن نفهم معاناتهم.
- العطاء: يجب أن نكون كرماء ونعطي من وقتنا ومواردنا للآخرين.
- الخدمة: يجب أن نخدم الآخرين ونساعدهم بأي طريقة ممكنة.
- التقدير: يجب أن نقدر الهدايا التي لدينا، وأن نستخدمها لمساعدة الآخرين.
إن رسالة “مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا” هي دعوة واضحة للعيش حياة مكرسة للخدمة والعطاء. إنها تذكرنا بأننا مدعوون إلى مشاركة في عمل الله، وأننا لسنا وحدنا في هذه الرحلة. من خلال اتباع تعليمات يسوع، يمكننا أن نحدث فرقاً حقيقياً في العالم.
تأثير الآية عبر التاريخ
كان لمتى 10:8 تأثير كبير على المسيحية عبر التاريخ. لقد ألهمت هذه الآية عددًا لا يحصى من المسيحيين على خدمة الآخرين، ورعاية المرضى، ومساعدة المحتاجين. لقد أصبحت الآية حجر الزاوية في العديد من المؤسسات الخيرية والمنظمات الإنسانية التي تسعى إلى تخفيف معاناة البشر. أدت هذه الآية إلى:
- تأسيس المستشفيات والملاجئ: قام المسيحيون عبر التاريخ بتأسيس العديد من المستشفيات والملاجئ لتقديم الرعاية الصحية والإقامة للمرضى والفقراء.
- تكوين منظمات الإغاثة: ظهرت منظمات الإغاثة المسيحية لتقديم المساعدة للمتضررين من الكوارث الطبيعية والحروب.
- دعم التعليم: قام المسيحيون بدعم التعليم وإنشاء المدارس والجامعات.
- نشر الإنجيل: ألهمت الآية العديد من المسيحيين لنشر الإنجيل في جميع أنحاء العالم، مع التركيز على خدمة الآخرين.
الآية في سياق أوسع للكتاب المقدس
يمكن فهم متى 10:8 بشكل أفضل عند مقارنتها بآيات أخرى في الكتاب المقدس. على سبيل المثال، تشترك هذه الآية في موضوعات مماثلة مع:
- مثل السامري الصالح (لوقا 10:25-37): يركز هذا المثل على أهمية الرحمة والتعاطف مع الآخرين، بغض النظر عن خلفيتهم أو وضعهم.
- أعمال الرسل (أعمال الرسل 3:1-10): تصف هذه الآيات شفاء رجل أعرج بواسطة بطرس ويوحنا. تظهر هذه القصة كيف يمكن للمسيحيين أن يمارسوا القوة والشفاء التي أعطاها لهم يسوع.
- 1 كورنثوس 12: يتحدث هذا الفصل عن عطايا الروح القدس وكيف يجب على المؤمنين استخدام هذه العطايا لخدمة الآخرين.
كل هذه النصوص تشترك في التأكيد على أهمية الخدمة والعطاء والرحمة. إنها تدعو المؤمنين إلى عيش حياة تتسم بالمحبة والتفاني في خدمة الآخرين.
التحديات والفرص
تواجه رسالة “مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا” تحديات في عالمنا اليوم. يمكن أن يكون من الصعب الحفاظ على روح العطاء غير الأنانية في مجتمع يركز في الغالب على المكاسب المادية والنجاح الشخصي. ومع ذلك، توجد أيضًا فرص كبيرة لتطبيق هذه الرسالة في حياتنا اليومية. يمكننا أن نختار:
- المشاركة في الأعمال الخيرية: يمكننا التبرع بالمال أو الوقت أو الموارد للمنظمات التي تساعد المحتاجين.
- خدمة مجتمعنا: يمكننا التطوع في المدارس أو المستشفيات أو دور المسنين.
- مساعدة الأفراد: يمكننا مساعدة الجيران والأصدقاء والعائلة الذين يحتاجون إلى المساعدة.
- مشاركة هدايانا ومواهبنا: يمكننا استخدام مهاراتنا ومواهبنا لمساعدة الآخرين.
من خلال تبني هذه السلوكيات، يمكننا أن نظهر للعالم قوة المحبة والرحمة. يمكننا أن نساعد في بناء مجتمع أكثر عدلاً ورحمة، حيث يتم تقدير قيمة كل شخص.
التركيز على “مجاناً أعطوا”
العبارة “مجاناً أعطوا” ليست مجرد دعوة للعطاء المادي، بل هي أيضًا دعوة للعطاء الروحي. هذا يعني مشاركة الإنجيل مع الآخرين، وتقديم الدعم والتشجيع للمؤمنين الآخرين، والصلاة من أجل الآخرين. كما يعني أن نكون مستعدين لمسامحة الآخرين، والتحلي بالصبر معهم، وتقديم الحب غير المشروط لهم.
إن العطاء مجاناً يعني أيضًا أن نكون متواضعين. يجب ألا نتوقع أي شيء في المقابل عندما نخدم الآخرين. يجب أن نتذكر أننا لسنا أفضل من الآخرين، وأننا جميعًا بحاجة إلى نعمة الله. يجب أن نكون مستعدين للتخلي عن كبريائنا وأنانيتنا، وأن نخدم الآخرين بدافع الحب والرحمة.
تطبيق المبدأ في الحياة اليومية
لتطبيق مبدأ “مجاناً أخذتم، فمجاناً أعطوا” في حياتنا اليومية، يمكننا أن نفعل ما يلي:
- تقديم المساعدة للآخرين: سواء كانت مساعدة مادية أو معنوية.
- التطوع بوقتنا ومهاراتنا: في المدارس، المستشفيات، أو المنظمات الخيرية.
- مشاركة خبراتنا: مع الآخرين الذين يحتاجون إليها.
- إظهار اللطف والرحمة: في تعاملاتنا اليومية مع الآخرين.
- تقديم الدعم العاطفي: للأصدقاء والعائلة في أوقات الحاجة.
من خلال هذه الأعمال الصغيرة، يمكننا أن نحدث فرقاً كبيراً في حياة الآخرين. يمكننا أن نكون شهوداً على محبة الله ورحمته للعالم.
خاتمة
متى 10:8 هي آية قوية تدعو إلى العمل والخدمة غير الأنانية. إنها تذكرنا بأننا مدعوون إلى مشاركة في عمل الله، وأننا لسنا وحدنا في هذه الرحلة. من خلال العطاء مجاناً، يمكننا أن نحدث فرقاً حقيقياً في العالم، وأن نكون شهوداً على محبة الله ورحمته. إن اتباع هذه الآية يتطلب التزاماً بالرحمة والتواضع والخدمة. من خلال تطبيق هذه المبادئ في حياتنا اليومية، يمكننا أن نساعد في بناء مجتمع أكثر عدلاً ورحمة، حيث يتم تقدير قيمة كل شخص. إنها دعوة إلى العمل، وليس فقط إلى الإيمان.