السياق العام للإصحاح الثاني عشر
يبدأ الإصحاح الثاني عشر من إنجيل متى بوصف يسوع وهو يتجول في حقول القمح يوم السبت، ويقوم تلاميذه بقطف السنابل وأكلها. يثير هذا الفعل استياء الفريسيين، الذين يتهمون التلاميذ بانتهاك السبت. يرد يسوع بالاستشهاد بأمثلة من العهد القديم، مثل داود الذي أكل من خبز الوجوه المقدسة عندما كان جائعًا، مؤكدًا أن “ابن الإنسان هو رب السبت” (متى 12:8). هذا يوضح سلطة يسوع على قوانين السبت، وأنه ليس عبداً لهذه القوانين، بل هو من يحددها.
بعد ذلك، يشفى يسوع رجلًا بيده يابسة في المجمع يوم السبت. يغضب الفريسيون مرة أخرى، فيقررون التآمر لقتل يسوع. ينسحب يسوع من هذه المنطقة، ويشفي الكثيرين، ويأمرهم ألا يفشوا سره. يتحقق هذا النصر لقول النبي إشعياء: “هوذا فتاي الذي اخترته حبيبي الذي سرت به نفسي. أضع روحي عليه فيخبر الأمم” (متى 12:18). هذا يظهر أن يسوع هو المسيا المتواضع والرحيم الذي جاء ليخدم الجميع، وليس فقط اليهود.
ثم يأتي اتهام يسوع بأنه يخرج الشياطين بقوة “بعلزبول”. يرد يسوع على هذا الاتهام بتوضيح أن مملكة منقسمة على ذاتها لا يمكن أن تثبت. كما يوضح أن من يجدف على الروح القدس لن يغفر له أبدًا. هذا التحذير من الجديف على الروح القدس هو تحذير خطير، ويظهر أهمية الروح القدس في الحياة الروحية.
بعد ذلك، يطلب الكتبة والفريسيون من يسوع أن يريهم آية. يرد يسوع بالإشارة إلى آية يونان، ويقول: “لأنه كما كان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال” (متى 12:40). هذا يوضح أن يسوع سيموت ويقوم من بين الأموات، كما فعل يونان. هذه الآية هي إشارة إلى موت يسوع وقيامته.
بعد هذه الأحداث، تأتي الآية 12:48، والتي هي محور هذا المقال.
شرح متى 12:48
يقول النص: “لأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي” (متى 12:48).
لفهم هذه الآية، يجب النظر في السياق المباشر. كان يسوع يتحدث إلى الجموع، وأُخبر أن أمه وإخوته كانوا يقفون خارجه، ويريدون التحدث إليه. يجيب يسوع بالقول المذكور أعلاه. هذا الرد قد يبدو غريبًا للوهلة الأولى، ولكنه يحمل رسالة عميقة.
“لأَنَّ مَنْ يَعْمَلُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ”: هذه هي النقطة الأساسية في كلام يسوع. لا يقتصر الأمر على العلاقة الجسدية أو القرابة الدموية. الأهم هو طاعة مشيئة الله. من يقوم بما يريده الله، فهو جزء من عائلة يسوع الروحية.
“هُوَ أَخِي وَأُخْتِي وَأُمِّي”: يشير يسوع إلى أن هؤلاء الذين يطيعون الله هم أقرب إليه من أقربائه الجسديين. هذا لا يعني التقليل من قيمة العلاقات الأسرية، بل تأكيد على أهمية العلاقة الروحية بالله. القرابة الروحية تتجاوز القرابة الجسدية.
هذه الآية تعلّم أن الانتماء إلى عائلة الله لا يعتمد على النسب أو العرق، بل يعتمد على الإيمان والطاعة. إنها دعوة للجميع، بغض النظر عن خلفياتهم، للانضمام إلى عائلة الله من خلال فعل إرادته.
أهمية الآية
تحمل هذه الآية أهمية كبيرة في اللاهوت المسيحي، وتوضح عدة نقاط رئيسية:
- الأولوية الروحية: تضع الآية الأولوية للعلاقة الروحية على العلاقات الجسدية. إن طاعة الله هي الأهم، وهي التي تحدد من هو قريب من يسوع حقًا.
- الشمولية: الآية مفتوحة للجميع. لا يشترط فيها عرق أو جنس أو خلفية اجتماعية. أي شخص يفعل مشيئة الله هو جزء من عائلة يسوع.
- الطاعة: تؤكد الآية على أهمية طاعة الله. فالإيمان وحده لا يكفي؛ يجب أن يكون مصحوبًا بأعمال.
- تعريف جديد للعائلة: يعيد يسوع تعريف مفهوم العائلة، ليس على أساس الدم، بل على أساس الروحانية المشتركة والطاعة لله.
التطبيقات العملية
لهذه الآية تطبيقات عملية في حياتنا اليومية. إليك بعض الأمثلة:
- التركيز على الروحيات: يجب أن نسعى أولاً إلى علاقة وثيقة بالله، ونجعل طاعته هي الأولوية في حياتنا.
- الخدمة للآخرين: يجب أن نخدم الآخرين ونحبهم، بغض النظر عن قرابتهم الجسدية أو خلفياتهم.
- العيش بالإيمان: يجب أن نعيش حياتنا بالإيمان، وأن نسعى دائمًا إلى فعل مشيئة الله.
- بناء مجتمع إيماني: يجب أن نبني مجتمعًا من المؤمنين الذين يطيعون الله ويعيشون في محبة ووئام.
في الختام، متى 12:48 هي آية قوية تدعو إلى تغيير في مفهوم العائلة، وتؤكد على أهمية طاعة الله والعيش بالإيمان. إنها دعوة للجميع للانضمام إلى عائلة الله من خلال فعل إرادته.
الآيات ذات الصلة
هناك آيات أخرى في الكتاب المقدس تدعم المعنى الوارد في متى 12:48:
- مرقس 3:31-35: يسجل مرقس هذه الحادثة أيضًا، بنفس المعنى والتركيز على أهمية القيام بمشيئة الله.
- لوقا 8:19-21: يسجل لوقا نفس الحادثة، ويقدم شرحًا مشابهًا لأهمية طاعة الله.
- يوحنا 15:14: “أَنْتُمْ أَحِبَّائِي إِنْ فَعَلْتُمْ مَا أُوصِيكُمْ بِهِ”. يؤكد يسوع على أهمية الطاعة كدليل على المحبة.
- رومية 8:14: “لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَنْقَادُونَ بِرُوحِ اللهِ، فَأُولَئِكَ هُمْ أَبْنَاءُ اللهِ”. يوضح بولس أن من يقودهم الروح هم أبناء الله.
الفرق بين العلاقة الجسدية والروحية
من المهم التمييز بين العلاقة الجسدية والروحية في هذا السياق. العلاقة الجسدية هي العلاقة التي تربطنا بأفراد عائلتنا البيولوجية. هذه العلاقات مهمة، ولكنها ليست الأهم. العلاقة الروحية هي العلاقة التي تربطنا بالله وجميع المؤمنين الآخرين. هذه العلاقة قائمة على الإيمان والطاعة والمحبة. وفقًا لمتى 12:48، العلاقة الروحية هي التي تحدد من هو قريب من يسوع حقًا.
يسوع لم يُقلل من قيمة العلاقات الأسرية، بل بالأحرى أشار إلى أن العلاقة الروحية مع الله والتي تتضمن طاعة وصاياه هي الأهم. فالأخوة والأخوات والأمهات هم الذين يقومون بإرادة الله، وهم الأعضاء الحقيقيون في عائلته.
أمثلة من الحياة اليومية
يمكننا أن نرى تطبيق هذه الآية في حياتنا اليومية بعدة طرق:
- المشاركة في الخدمة: عندما نخدم الآخرين ونساعدهم، فإننا نفعل مشيئة الله ونصبح جزءًا من عائلة يسوع.
- التسامح والغفران: عندما نتسامح ونغفر للآخرين، فإننا نعكس محبة الله ونقترب منه.
- الصلاة والدراسة: عندما نقضي وقتًا في الصلاة وقراءة الكتاب المقدس، فإننا نتعلم عن الله ونقترب منه.
- الإخلاص في العمل: عندما نعمل بجد ونبذل قصارى جهدنا في كل ما نقوم به، فإننا نمجد الله.
باختصار، متى 12:48 تدعونا إلى تقييم علاقاتنا، ووضع الأولوية لطاعة الله وعلاقتنا الروحية به. هذا لا يعني تجاهل العلاقات الجسدية، بل إعطاء الأولوية للعلاقات الروحية، والعيش بطريقة تعكس محبة الله ورعايته للجميع.
الخلاصة
متى 12:48 هي آية مركزية في الكتاب المقدس، والتي تعيد تعريف مفهوم العائلة. تؤكد الآية على أن القرابة الروحية، القائمة على طاعة مشيئة الله، هي الأهم. يسوع يوضح أن الذين يعملون مشيئة الله هم إخوته وأخواته وأمه. هذا يعطي أولوية للروحانية على العلاقات الجسدية، ويدعو الجميع للانضمام إلى عائلة الله من خلال الإيمان والطاعة. الآية تدعو إلى حياة من الخدمة والمحبة، وتعطي الأولوية للعلاقات الروحية على العلاقات الجسدية، وتشجع على بناء مجتمع إيماني يعيش في وئام.
المراجع
- Bible Gateway – Matthew 12:48
- StudyLight.org – Matthew 12 Commentary
- Got Questions – Matthew 12:48
- Christianity Today – The Family of Jesus
“`