سياق الآية
يبدأ الفصل الثاني عشر من إنجيل متى بسلسلة من الأحداث التي أثارت جدلاً بين يسوع والفريسيين. في الآيات الأولى، يمر تلاميذ يسوع بحقول القمح يوم السبت، ويلتقطون بعض السنابل ليأكلوها. هذا الفعل اعتبره الفريسيون انتهاكًا لشريعة السبت، التي تحظر العمل في هذا اليوم. اتهم الفريسيون التلاميذ بالقيام بعمل غير لائق في يوم الراحة.
ردًا على هذا الاتهام، يشير يسوع إلى أمثلة من الكتاب المقدس لتبرير فعل تلاميذه. يذكر يسوع كيف أكل داود وأتباعه خبز التقدمة، وهو طعام مخصص للكهنة فقط، عندما كانوا جائعين. يستخدم يسوع هذا المثال لإظهار أن الحاجة الإنسانية تفوق بعض الجوانب الشكلية للشريعة. ثم يواصل يسوع بالقول في متى 12:7:
«فلو علمتم ما هو: إني أريد رحمة لا ذبيحة، لما حكمتم على الأبرياء» (متى 12:7).
تحليل الآية
تعتبر هذه الآية جوهرية لفهم رسالة يسوع. دعونا نحلل كلماتها بعناية:
- “فلو علمتم ما هو”: يبدأ يسوع بكلمة “لو”، مما يشير إلى أنه يفترض أن الفريسيين لم يفهموا جوهر الشريعة. يوجه يسوع كلامه إليهم، مشيرًا إلى نقص في فهمهم الروحي.
- “إني أريد رحمة لا ذبيحة”: هذا الاقتباس مأخوذ من هوشع 6:6 في العهد القديم. يعيد يسوع التأكيد على أن الله يفضل الرحمة والتعاطف على مجرد الطقوس والذبيحة. يشير يسوع إلى أن الله يهتم بالعلاقات الإنسانية والتعاطف مع الآخرين أكثر من الالتزام الصارم بالقواعد الدينية.
- “لما حكمتم على الأبرياء”: يختتم يسوع هذه الآية بتوجيه اللوم إلى الفريسيين، الذين حكموا على تلاميذه. يوضح لهم أن حكمهم كان نتيجة لعدم فهمهم لجوهر الشريعة. يشير يسوع إلى أن الرحمة يجب أن تسبق الأحكام القاسية.
أهمية الرحمة
تعتبر الرحمة موضوعًا مركزيًا في تعاليم يسوع المسيح. في متى 12:7، يؤكد يسوع على أهمية الرحمة على الذبيحة. هذا يعني أن الله يفضل أن يعامل الناس بعضهم البعض بالرحمة والتعاطف على مجرد الالتزام بالطقوس الدينية. يسوع يوضح أن الرحمة هي جوهر العلاقة الصحيحة مع الله ومع الآخرين.
الرحمة في هذا السياق تعني أكثر من مجرد الشفقة. إنها تعني فهم معاناة الآخرين، والاستعداد للمساعدة، وإظهار اللطف والتسامح. إنها تعني وضع احتياجات الآخرين قبل احتياجاتنا الشخصية. هذا المفهوم يتناقض مع الموقف المتصلب للفريسيين الذين كانوا يركزون على الامتثال للقواعد الدينية، بغض النظر عن تأثيرها على الآخرين.
الذبيحة في مقابل الرحمة
يشير يسوع إلى “الذبيحة” كرمز للطقوس الدينية والالتزام بالشريعة. على الرغم من أن الذبائح كانت جزءًا مهمًا من العبادة في العهد القديم، إلا أن يسوع يوضح أنها ليست الغاية النهائية. يؤكد أن الله يريد علاقة حقيقية تقوم على الحب والرحمة، وليس مجرد الامتثال للطقوس. يوضح يسوع أن الذبائح يجب أن تكون تعبيرًا عن الإيمان الحقيقي والرحمة، وليست مجرد أفعال شكلية.
هذا لا يعني أن يسوع يرفض تمامًا أهمية الشريعة والطقوس. بدلاً من ذلك، يوضح يسوع أن الشريعة والطقوس يجب أن تكون في خدمة الرحمة والحب. يجب أن تهدف إلى مساعدة الناس، وليس إدانتهم. يجب أن تعكس طبيعة الله، الذي هو رحيم ومحب.
تطبيق المبدأ
ينطبق مبدأ الرحمة على جميع جوانب الحياة. يجب أن نسعى دائمًا إلى فهم الآخرين، وأن نكون مستعدين للمساعدة، وأن نعامل الآخرين باللطف والتسامح. يجب أن نضع احتياجات الآخرين في الاعتبار قبل أن نصدر أحكامًا. يجب أن نتذكر أن الرحمة هي علامة على الإيمان الحقيقي، وهي ما يطلبه الله منا.
في الحياة اليومية، يمكننا تطبيق مبدأ الرحمة من خلال:
- الاستماع إلى الآخرين: أن نأخذ الوقت للاستماع إلى مشاكل الآخرين ومخاوفهم.
- تقديم المساعدة: أن نكون على استعداد لتقديم المساعدة للآخرين عندما يحتاجون إليها.
- التسامح: أن نكون على استعداد للتسامح مع الآخرين عندما يرتكبون أخطاء.
- التعاطف: أن نحاول فهم مشاعر الآخرين.
الرحمة في سياق العهد الجديد
تظهر الرحمة كقيمة أساسية في جميع أنحاء العهد الجديد. يدعو يسوع تلاميذه إلى أن يكونوا رحماء كما أن أباهم السماوي رحيم (لوقا 6:36). يقدم يسوع العديد من الأمثلة على الرحمة، مثل مثل السامري الصالح (لوقا 10:25-37). يوضح يسوع أن الرحمة هي جزء أساسي من الحياة المسيحية.
يؤكد الرسول بولس أيضًا على أهمية الرحمة في رسائله. يشجع المؤمنين على أن يكونوا رحماء ومتعاطفين مع الآخرين (رومية 12:15، كولوسي 3:12). يوضح بولس أن الرحمة هي ثمرة من ثمار الروح القدس.
متى 12:7 وعلاقته بالعدالة
غالبًا ما يتم ربط مفهوم الرحمة بالعدالة. في متى 12:7، يشير يسوع إلى أن الفريسيين أخطأوا في الحكم على تلاميذه لأنهم لم يظهروا الرحمة. هذا يشير إلى أن الرحمة والعدالة يجب أن يعملا معًا. يجب أن نسعى إلى العدالة، ولكن يجب أن نفعل ذلك بالرحمة والتعاطف.
العدالة بدون رحمة يمكن أن تكون قاسية وغير إنسانية. الرحمة بدون عدالة يمكن أن تكون غير فعالة. يجب أن نسعى إلى تحقيق التوازن بين الاثنين. يجب أن نسعى إلى العدالة التي تأخذ في الاعتبار احتياجات وظروف جميع المعنيين. يجب أن نسعى إلى الرحمة التي تقوم على الحق والحقيقة.
متى 12:7 والتحديات المعاصرة
في عالم اليوم، حيث غالبًا ما نرى الصراع والظلم، فإن رسالة متى 12:7 ذات أهمية خاصة. في مجتمعنا، غالبًا ما نرى أحكامًا قاسية على الآخرين، وعدم فهم لمعاناتهم. يمكن أن تساعدنا هذه الآية على:
- تحدي الأحكام المسبقة: تشجعنا الآية على التشكيك في أحكامنا المسبقة والتعاطف مع الآخرين.
- تعزيز التسامح: تعلمنا أن نكون أكثر تسامحًا مع الآخرين، حتى عندما نختلف معهم.
- بناء مجتمع أكثر عدلاً: تلهمنا الآية للعمل من أجل مجتمع أكثر عدلاً ورحمة.
من خلال تطبيق مبدأ الرحمة في حياتنا، يمكننا أن نحدث فرقًا إيجابيًا في العالم. يمكننا أن نساعد في بناء مجتمع أكثر رحمة وعدالة للجميع.
الخلاصة
متى 12:7 هي آية قوية تؤكد على أهمية الرحمة والفهم على الالتزام الصارم بالشريعة. يوضح يسوع أن الله يفضل الرحمة على الذبيحة، وأن الرحمة يجب أن تكون أساس علاقتنا مع الله ومع الآخرين. من خلال تطبيق مبدأ الرحمة في حياتنا، يمكننا أن نعيش حياة أكثر إنسانية وعدالة. يجب أن نتذكر دائمًا أن الرحمة هي علامة على الإيمان الحقيقي، وهي ما يطلبه الله منا.