السياق العام
لفهم متى 9:13 بشكل كامل، من الضروري النظر في السياق الذي وردت فيه. يصف إنجيل متى كيف كان يسوع يتجول في الجليل ويعظ ويعمل المعجزات. في هذا الجزء من الإنجيل، يذكر متى كيف دعا يسوع متى العشار (أو جامع الضرائب) ليكون أحد تلاميذه. بعد ذلك، أقام يسوع وليمة في بيت متى، حضرها العديد من العشارين والخطاة. هذا التصرف أثار انتقادات الفريسيين، الذين اعتبروا أنفسهم أصحاب الصلاح، ورفضوا التعامل مع أمثال هؤلاء الأشخاص.
يركز هذا الإصحاح على سلوك يسوع تجاه الخطاة، وكيف كان يتفاعل معهم برحمة وتسامح. يعلم هذا الجزء من الكتاب المقدس أن يسوع جاء ليدعو الخطاة إلى التوبة، وليس الأبرار. هذا الموقف يمثل جوهر رسالة يسوع المسيح، وهي رسالة محبة ورحمة موجهة إلى جميع الناس.
الآية (متى 9:13) وتفسيرها
الآية نفسها تقول:
«فَاذْهَبُوا وَتَعَلَّمُوا مَا هُوَ: إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً. لأَنِّي لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَاراً بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ»
هذه الآية تتضمن اقتباسًا من العهد القديم، تحديدًا من سفر هوشع (6: 6)، حيث يقول الرب: “لأني أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً”. يسوع هنا يقتبس هذا القول لتوضيح مهمته. إنه لا يرفض الذبائح كليًا، ولكن يؤكد على أهمية الرحمة والإحسان على الطقوس الخارجية. يسوع يوضح أن الله يفضل الرحمة والتوبة على مجرد الالتزام بالشعائر الدينية.
دعونا نحلل هذه الآية إلى أجزاء رئيسية:
- “اذهبوا وتعلموا ما هو”: هذه الكلمات موجهة إلى الفريسيين، الذين كانوا يركزون على الالتزام بالقانون والشعائر الدينية. يسوع يدعوهم إلى التعلم والفهم العميق لمعنى الرحمة.
- “إني أريد رحمة لا ذبيحة”: هذا هو جوهر رسالة يسوع. الرحمة هي إظهار اللطف والتسامح والتعاطف تجاه الآخرين، خاصة المحتاجين والضعفاء. الذبائح كانت جزءًا من الطقوس الدينية في العهد القديم. يسوع هنا يضع الرحمة فوق هذه الطقوس.
- “لأني لم آت لأدعو أبرارًا بل خطاة إلى التوبة”: يسوع يوضح سبب وجوده. هو لم يأتِ ليدعو الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم صالحين بالفعل، بل جاء ليدعو الخطاة إلى التوبة والعودة إلى الله. هذا يوضح أن رسالة يسوع موجهة إلى الجميع، بغض النظر عن خلفياتهم أو أخطائهم.
أهمية الرحمة والتوبة
متى 9:13 يسلط الضوء على أهمية الرحمة والتوبة في الديانة المسيحية. يوضح أن الله يهتم بقلوب الناس أكثر من مجرد سلوكهم الخارجي. الرحمة هي جوهر طبيعة الله، وهي دعوة للمؤمنين ليعكسوا هذه الصفة في حياتهم. التوبة هي تغيير العقل والقلب، والاعتراف بالذنوب والابتعاد عنها. هي خطوة ضرورية للرجوع إلى الله.
هذا المفهوم يمثل تحديًا للفكر السائد في زمن يسوع، حيث كان التركيز غالبًا على الالتزام الحرفي بالقانون والشعائر. يسوع يدعو إلى نهج جديد، يركز على العلاقة الشخصية مع الله، وعلى محبة الآخرين. هذا يضع الأساس للعديد من تعاليم يسوع الأخرى، مثل “أحبوا أعداءكم” و “ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فبي فعلتم”.
تطبيق متى 9:13 في الحياة اليومية
رسالة متى 9:13 ذات صلة كبيرة بالحياة اليومية. إليك بعض الطرق التي يمكن تطبيق هذه الآية بها:
- الرحمة تجاه الآخرين: يجب أن نسعى إلى إظهار الرحمة تجاه الآخرين، بغض النظر عن أخطائهم أو خلفياتهم. هذا يشمل التسامح، والتعاطف، وتقديم المساعدة للمحتاجين.
- الفهم والتسامح: بدلًا من الحكم على الآخرين، يجب أن نحاول فهمهم وتسامحهم. هذا يتطلب منا أن نكون مستعدين للاستماع إلى الآخرين، وتقبل اختلافاتهم.
- الاعتراف بالذات: يجب أن نكون على استعداد للاعتراف بأخطائنا والعمل على التوبة. هذا يتطلب منا أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الله.
- التركيز على العلاقات: يجب أن نضع العلاقات مع الآخرين في المقام الأول، بدلًا من التركيز على الطقوس الدينية أو الإنجازات الخارجية.
- خدمة الآخرين: يجب أن نسعى إلى خدمة الآخرين، خاصة المحتاجين والضعفاء. هذا يشمل تقديم المساعدة المادية، والدعم العاطفي، والوقت.
الفرق بين الرحمة والعدالة
غالبًا ما يتم الخلط بين مفهومي الرحمة والعدالة. بينما كلاهما مهمان، إلا أنهما يمثلان مفاهيم مختلفة. العدالة تعني إعطاء كل شخص ما يستحقه، بينما الرحمة تعني إظهار اللطف والتسامح حتى عندما لا يستحق الشخص ذلك. في سياق متى 9:13، يسوع يوضح أن الرحمة هي الأهم.
في حين أن العدالة ضرورية للحفاظ على النظام الاجتماعي، إلا أن الرحمة ضرورية لبناء مجتمع قائم على المحبة والتسامح. الرحمة لا تلغي العدالة، بل تهدف إلى تخفيف آثارها، وتوفير فرصة للشفاء والتجديد.
متى 9:13 في سياق العهد الجديد
متى 9:13 لا يقف بمفرده، بل يمثل جزءًا من رسالة أوسع في العهد الجديد. يتجلى هذا في مواقف أخرى ليسوع، مثل:
- مثل الابن الضال: يوضح هذا المثل كيف أن الله يرحب بالخطاة التائبين، ويحتفل بعودتهم.
- المرأة الزانية: عندما أُتي بالمرأة الزانية ليسوع، رفض إدانتها، وقال لها “اذهبي ولا تخطئي أيضًا”.
- العشاء الأخير: يسوع أسس سر العشاء الأخير، رمزًا للتضحية والمغفرة.
هذه الأمثلة وغيرها توضح أن رسالة يسوع كانت رسالة محبة ورحمة، وأن هدفه الرئيسي كان دعوة الخطاة إلى التوبة والرجوع إلى الله.
تأثير متى 9:13 على المسيحية
متى 9:13 كان له تأثير عميق على الفكر والممارسة المسيحية. ألهمت هذه الآية العديد من المسيحيين على:
- خدمة المحتاجين: ألهمت المسيحيين على مساعدة الفقراء والمرضى والضعفاء، وتوفير الرعاية لهم.
- التسامح والمغفرة: ألهمت المسيحيين على التسامح مع الآخرين، حتى أولئك الذين أخطأوا في حقهم.
- التبشير والتبشير: ألهمت المسيحيين على مشاركة رسالة الإنجيل مع الآخرين، حتى مع أولئك الذين يعتبرون أنفسهم خارجين عن المجتمع.
- العمل من أجل العدالة الاجتماعية: ألهمت المسيحيين على العمل من أجل العدالة الاجتماعية، ومكافحة الظلم والتمييز.
أصبحت هذه الآية جزءًا أساسيًا من اللاهوت المسيحي، وهي تُستخدم لتوجيه المؤمنين في حياتهم اليومية.
الرد على الاعتراضات
قد يواجه هذا الفهم للرحمة والتوبة بعض الاعتراضات. على سبيل المثال، قد يقول البعض أن التسامح مع الخطاة يشجع على الخطايا. ومع ذلك، يوضح الكتاب المقدس أن التوبة ضرورية للمغفرة. الرسالة ليست “افعل ما يحلو لك”، بل “اذهبوا ولا تخطئوا أيضًا”.
هناك أيضًا اعتراض آخر، وهو أن التركيز على الرحمة يقلل من أهمية العدالة. ومع ذلك، فإن الكتاب المقدس يؤكد على أهمية العدالة، ولكنه يوضح أن الرحمة هي الأهم في سياق العلاقة مع الله ومع الآخرين.
الرد على هذه الاعتراضات هو أن الرحمة والتوبة ليستا متناقضتين، بل هما متكاملتان. الرحمة تفتح الباب للمغفرة، والتوبة تقود إلى التغيير والنمو الروحي. العدالة ضرورية للحفاظ على النظام الاجتماعي، ولكن الرحمة هي التي تشفي الجروح وتجلب السلام.
خاتمة
متى 9:13 هو آية قوية ومهمة في الكتاب المقدس. إنها تذكرنا بأهمية الرحمة والتوبة، وتدعو المسيحيين إلى إظهار اللطف والتسامح تجاه الآخرين. تؤكد هذه الآية على أن الله يفضل الرحمة على الطقوس الخارجية، وأن رسالة يسوع كانت موجهة إلى الخطاة. هذا المفهوم يمثل تحديًا للفكر السائد في زمن يسوع، وهو لا يزال ذا صلة كبيرة بالحياة اليومية للمسيحيين في جميع أنحاء العالم. من خلال فهم رسالة هذه الآية وتطبيقها، يمكننا أن نعيش حياة أكثر رحمة وتوبة، ونعكس محبة الله للعالم.