السياق العام
لكي نفهم متى 9:11 بشكل كامل، يجب أن نضعها في سياقها الأوسع. يروي إنجيل متى قصة استدعاء يسوع لمتى (الذي يُعرف أيضًا باسم لاوي)، وهو جابي ضرائب. بعد استدعاء متى، أقام يسوع وليمة في منزله. حضر هذه الوليمة العديد من جباة الضرائب والخطاة الآخرين، مما أثار استياء الكتبة والفريسيين.
يتجلى هنا التوتر بين تعاليم يسوع وممارساته، وبين التقاليد الدينية السائدة في ذلك الوقت. كان الفريسيون والكتبة ملتزمين بشدة بقواعد الطهارة والتباعد الاجتماعي، ورأوا أن التعامل مع الخطاة وجباة الضرائب أمر غير لائق. اعتبروا هؤلاء الأشخاص غير طاهرين ويجب تجنبهم.
نص الآية وتفسيرها
يقول نص متى 9:11:
“فلما رأى الفريسيون ذلك قالوا لتلاميذه: لماذا يأكل معلمكم مع العشارين والخطاة؟”
هذه الآية تسجل سؤالًا وجهه الفريسيون لتلاميذ يسوع. يعبر السؤال عن استيائهم من أن يسوع يأكل مع جباة الضرائب (العشارين) والخطاة. يعتبر هذا الفعل انتهاكًا للعادات الدينية والاجتماعية في ذلك الوقت. كان الفريسيون يعتقدون أنهم يجب أن يبتعدوا عن مثل هؤلاء الأشخاص للحفاظ على طهارتهم الروحية.
يركز السؤال على سلوك يسوع، ويوحي ضمنًا بأنهم يعتبرون هذا السلوك غير لائق وغير مقبول. يمثل هذا السؤال بداية لسلسلة من التفاعلات التي تكشف عن الاختلافات الأساسية في الرؤى بين يسوع والفريسيين حول طبيعة البر والتقوى.
رد يسوع
لم يترك يسوع هذا السؤال دون إجابة. في الآية التالية (متى 9:12)، يجيب يسوع على الفريسيين بقوله:
“فلما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى.”
في هذه الاستجابة، يستخدم يسوع استعارة قوية لتوضيح مهمته. يشبه نفسه بالطبيب، ويشبه الخطاة بالمرضى. لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، وهذا يعني أن الذين يعتقدون أنهم أبرار (مثل الفريسيين) لا يحتاجون إلى يسوع. هم في نظرهم أصحاء روحياً ولا يحتاجون إلى علاج.
أما المرضى، وهم الخطاة، فهم الذين يحتاجون إلى الطبيب. يرى يسوع أن مهمته هي مساعدة أولئك الذين يعانون من المرض الروحي، أي الخطاة. هذا الرد يوضح أن يسوع لم يأتِ ليدين، بل ليخلص. إنه يوضح اهتمامه بالضعفاء والمهمشين في المجتمع.
الدلالات اللاهوتية والأخلاقية
تحمل متى 9:11 دلالات لاهوتية وأخلاقية عميقة:
- طبيعة رسالة يسوع: تُظهر هذه الآية أن رسالة يسوع كانت شاملة، وتستهدف الجميع، بمن فيهم المهمشون في المجتمع. لم يأتِ ليخدم الأبرار، بل الخطاة، ليدعوهم إلى التوبة والحياة الأفضل.
- البر الحقيقي: يضع يسوع تعريفًا جديدًا للبر. لا يقتصر البر على الالتزام الصارم بالقواعد الخارجية، بل يشمل الحب والرحمة والاهتمام بالآخرين، حتى أولئك الذين يعتبرهم المجتمع غير جديرين.
- الرحمة مقابل الحكم: تؤكد الآية على أهمية الرحمة على الحكم. يختار يسوع أن يقضي وقته مع الخطاة بدلاً من إدانتهم. هذا يعكس طبيعة الله الرحيمة والمحبة.
- التحدي للتفكير التقليدي: تتحدى الآية التفكير التقليدي حول الطهارة والتباعد الاجتماعي. يقدم يسوع نموذجًا مختلفًا، حيث يختار أن يقترب من أولئك الذين يعتبرهم الآخرون غير جديرين.
التأثير على المسيحية
كان لمتى 9:11 تأثير كبير على الفكر والممارسة المسيحية. ألهمت هذه الآية:
- التبشير والإنجيلية: ألهمت هذه الآية المسيحيين على مر العصور للتبشير بالإنجيل لجميع الناس، بغض النظر عن خلفيتهم أو سلوكهم.
- الخدمة الاجتماعية: حثت المسيحيين على خدمة المحتاجين والضعفاء، مثل الفقراء والمرضى والمسجونين، وإظهار الرحمة والمحبة لهم.
- الشمولية: ساهمت في تعزيز الشمولية في الكنيسة، وتشجيع الترحيب بالجميع، بغض النظر عن اختلافهم.
- الفهم اللاهوتي: ساعدت في تشكيل فهم أعمق لطبيعة الله، الذي يظهر محبته للجميع، ويدعو الجميع إلى التوبة.
أهمية الآية في العصر الحديث
لا تزال متى 9:11 ذات صلة كبيرة في العصر الحديث. في عالمنا اليوم، حيث غالبًا ما نواجه الانقسام والتمييز، تذكرنا هذه الآية بأهمية:
- التعاطف: تشجعنا على التعاطف مع الآخرين، حتى أولئك الذين نختلف معهم.
- التسامح: تعلمنا أن نتسامح مع أخطاء الآخرين ونسامحهم، كما فعل يسوع.
- الاندماج: تدعونا إلى الاندماج مع الآخرين، بغض النظر عن خلفيتهم أو وضعهم.
- الخدمة: تحفزنا على خدمة الآخرين، خاصة أولئك الذين هم في حاجة إلى المساعدة.
في عالم يزداد فيه الاستقطاب، تقدم متى 9:11 دعوة قوية للحب والرحمة والشمولية. إنها دعوة لنا جميعًا لاتباع مثال يسوع، والوصول إلى أولئك الذين يحتاجون إلى الشفاء والرجاء.
التباين مع الثقافات المختلفة
تتجاوز رسالة متى 9:11 حدود الثقافة والدين. في كل مجتمع، هناك مجموعات مهمشة أو مهمومة. يمكن أن تختلف هذه المجموعات، من اللاجئين والمهاجرين إلى الأشخاص الذين يعانون من الفقر أو الإعاقة. في هذا السياق، تقدم متى 9:11 مبادئ عالمية:
- التعامل مع التحيز: تشجعنا الآية على تحدي التحيزات والافتراضات التي قد نحملها تجاه الآخرين.
- الالتزام بالعدالة الاجتماعية: تدعم الآية فكرة أننا جميعًا متساوون في نظر الله، وتدعم العدالة والمساواة للجميع.
- بناء الجسور: تدعونا إلى بناء الجسور بين المجتمعات المختلفة، بدلاً من بناء الحواجز التي تفرقنا.
تأثير الآية على الفن والأدب
ألهمت متى 9:11 العديد من الأعمال الفنية والأدبية على مر العصور. تظهر هذه الأعمال:
- الأعمال الفنية: يصور الفنانون في لوحاتهم النزاع بين يسوع والفريسيين، أو يصورون يسوع وهو يتناول الطعام مع الخطاة.
- الأعمال الأدبية: كتب المؤلفون روايات وقصصًا مستوحاة من هذه الآية، والتي تستكشف موضوعات مثل الرحمة والعدالة والخلاص.
- الأفلام والمسلسلات: ظهرت هذه الآية في العديد من الأفلام والمسلسلات، مما ساعد على نشر رسالتها إلى جمهور أوسع.
تعمل هذه الأعمال على تعزيز فهمنا لرسالة يسوع، وتشجعنا على التفكير في كيفية تطبيق هذه الرسالة في حياتنا اليومية.
أهمية القبول والشمولية
تُظهر متى 9:11 أهمية القبول والشمولية. في عالمنا المعاصر، هناك حاجة ماسة إلى قبول الآخرين، بغض النظر عن اختلافاتهم. تذكرنا الآية بأن:
- الجميع يستحقون الاحترام: يجب أن نعامل الجميع باحترام وكرامة، بغض النظر عن خلفيتهم أو معتقداتهم.
- الشمولية هي قوة: إن مجتمعًا يرحب بالجميع ويحتضن تنوعه يكون مجتمعًا أقوى وأكثر ازدهارًا.
- الحب يتغلب على الكراهية: يمكن للحب والرحمة أن يتغلبوا على الكراهية والانقسام، وأن يخلقوا عالمًا أفضل للجميع.
الفرق بين متى 9:11 وغيرها من الآيات
على الرغم من أن متى 9:11 مهمة جدًا، إلا أنها ليست الآية الوحيدة في الكتاب المقدس التي تتناول موضوعات مماثلة. يمكن مقارنتها بآيات أخرى، مثل:
- لوقا 5:32: “لم آت لأدعو أبراراً إلى التوبة، بل خطاة”. هذه الآية تعبر عن فكرة مماثلة لتلك الموجودة في متى 9:11.
- مرقس 2:17: “لما سمع يسوع قال لهم: لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب، بل المرضى. لم آت لأدعو أبراراً، بل خطاة إلى التوبة”. هذه الآية تشبه إلى حد كبير رد يسوع في متى 9:12.
- يوحنا 3:16: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية”. هذه الآية تظهر حب الله للجميع.
توضح هذه الآيات معًا طبيعة رسالة يسوع، وتبرز أهمية الحب والرحمة والشمولية.
تحديات تطبيق الرسالة
على الرغم من أن رسالة متى 9:11 واضحة، إلا أن تطبيقها في الحياة اليومية قد يكون صعبًا. قد نواجه:
- التحيزات الشخصية: قد يكون لدينا تحيزات شخصية تجاه أشخاص أو مجموعات معينة، مما يجعل من الصعب علينا قبولهم.
- الضغط الاجتماعي: قد نتعرض لضغوط اجتماعية من أجل التوافق مع الأعراف السائدة، حتى لو كانت هذه الأعراف تتعارض مع مبادئنا.
- الخوف من الحكم: قد نخاف من أن يحكم علينا الآخرون إذا عاملنا الأشخاص الذين يعتبرهم المجتمع “غير جديرين” باحترام.
للتغلب على هذه التحديات، نحتاج إلى أن نكون على دراية بتحيزاتنا، وأن نتحدى القواعد الاجتماعية السلبية، وأن نثق في قيمنا الشخصية. يتطلب الأمر الشجاعة لاتباع مثال يسوع، حتى عندما يكون ذلك صعبًا.
الخلاصة
متى 9:11 هي آية قوية تقدم لنا رسالة عن الحب والرحمة والشمولية. تسجل هذه الآية سؤال الفريسيين ليسوع حول سبب تناوله الطعام مع الخطاة وجباة الضرائب، وتعطينا إجابة يسوع التي توضح طبيعة رسالته. إنها تذكرنا بأهمية قبول الآخرين، وتقديم الرحمة، والعمل من أجل مجتمع أكثر عدالة وإنصافًا. تعكس هذه الآية جوهر رسالة يسوع، والتي تدعونا إلى محبة الجميع والاهتمام بهم، بغض النظر عن وضعهم أو معتقداتهم. هذه الآية ذات صلة كبيرة في العصر الحديث، وتدعونا إلى أن نكون أكثر تعاطفًا وتسامحًا وانفتاحًا على الآخرين. إنها دعوة لنا جميعًا إلى السعي نحو عالم أفضل، حيث يسود الحب والرحمة.