السياق التاريخي والثقافي
لفهم متى 7:23 بشكل صحيح، من الضروري وضعها في سياقها التاريخي والثقافي. كتب إنجيل متى في الأصل باللغة اليونانية، وهو يستهدف على الأرجح اليهود الذين تحولوا إلى المسيحية. كان اليهود في القرن الأول الميلادي يعيشون تحت الحكم الروماني، وكانوا يتوقعون مجيء المسيح (المسيا) الذي سيحررهم من الاضطهاد. في هذا السياق، قدم يسوع نفسه على أنه المسيح، وألقى عظته على الجبل كجزء من رسالته التعليمية.
تعتبر عظة يسوع على الجبل، التي تضم متى 7:23، بمثابة دستور أخلاقي للمؤمنين. يعرض يسوع فيها مبادئ ملكوت الله، ويدعو أتباعه إلى حياة البر والقداسة. يبرز الإنجيل أن يسوع لم يأتِ لإلغاء الشريعة، بل لإكمالها، مؤكدًا على أهمية الإيمان والأعمال الصالحة.
تحليل النص
تقول متى 7:23: “حينئذٍ أصرّح لهم: إني لم أعرفكم قط! اذهبوا عني يا فاعلي الإثم“. هذه الآية تحمل في طياتها رسالة تحذيرية شديدة اللهجة. دعنا نقسم هذه الآية إلى أجزائها الرئيسية:
- “حينئذٍ أصرّح لهم”: تشير هذه العبارة إلى يوم الدينونة، أو الحكم النهائي. يتحدث يسوع عن الوقت الذي سيظهر فيه أمام الله كديان عادل.
- “إني لم أعرفكم قط”: هذه هي العبارة الأكثر إثارة للقلق. يشير “لم أعرفكم” إلى عدم وجود علاقة شخصية مع هؤلاء الأشخاص. يبدو أن هؤلاء قد ادعوا الإيمان بيسوع، ولكنهم لم يعيشوا حياة ترضي الله.
- “اذهبوا عني يا فاعلي الإثم”: هذه هي كلمة الحكم. يأمر يسوع هؤلاء الأشخاص بالرحيل عنه. يشير “فاعلي الإثم” إلى الأشخاص الذين يمارسون الشر، ولا يعيشون وفقًا لإرادة الله.
توضح هذه الآية أن مجرد الادعاء بالإيمان بيسوع غير كافٍ للخلاص. يجب أن يرافق الإيمان أعمال صالحة تثبت هذا الإيمان. يركز يسوع هنا على أهمية العلاقة الشخصية مع الله، وعلى ضرورة أن يعيش المؤمن حياة تتوافق مع تعاليمه.
الأهمية اللاهوتية
تحمل متى 7:23 أهمية لاهوتية كبيرة. إنها تقدم العديد من الدروس الهامة:
- التحذير من الإيمان الزائف: تحذر الآية من الاعتماد على مجرد المظاهر الدينية أو الادعاءات بالإيمان دون وجود تغيير حقيقي في القلب والسلوك.
- أهمية العلاقة الشخصية مع الله: تؤكد الآية على أن العلاقة الشخصية مع يسوع هي الأساس للخلاص. يجب أن يعرفنا يسوع شخصيًا، وليس مجرد أن نعرفه.
- أهمية الأعمال الصالحة: تشير الآية إلى أن الأعمال الصالحة ضرورية كدليل على الإيمان الحقيقي. يجب أن تظهر أعمالنا إيماننا.
- عدالة الله: تكشف الآية عن عدالة الله. سيدين الله كل شخص وفقًا لأعماله.
تعتبر هذه الآية بمثابة اختبار للضمير. تدعو المؤمنين إلى فحص حياتهم والتأكد من أن إيمانهم حقيقي، وأنهم يعيشون حياة تليق بيسوع المسيح.
التأثير على القارئ
يمكن أن يكون لمتى 7:23 تأثير كبير على القارئ. قد تثير هذه الآية الخوف والارتباك، ولكنها في الوقت نفسه تدعو إلى التوبة والتغيير. إليك بعض التأثيرات المحتملة:
- التشجيع على الفحص الذاتي: تدعو الآية القارئ إلى فحص حياته والتأكد من أن إيمانه حقيقي.
- الحث على التوبة: قد تدفع الآية القارئ إلى التوبة عن خطاياه والسعي إلى حياة جديدة في المسيح.
- الإلهام على النمو الروحي: تشجع الآية القارئ على النمو الروحي والاقتراب من الله من خلال الصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والخدمة للآخرين.
- التحذير من الاكتفاء بالظاهر: تحذر الآية من التركيز على المظاهر الدينية الخارجية دون وجود تغيير داخلي حقيقي.
يجب على القارئ أن يأخذ هذه الآية على محمل الجد، وأن يسعى إلى فهمها بشكل صحيح. يجب أن لا تكون الآية مصدرًا للخوف أو القلق، بل دافعًا للتقرب من الله والعيش حياة ترضيه.
كيفية تطبيق مبادئ الآية في الحياة اليومية
لكي نعيش وفقًا لمتى 7:23، يجب علينا:
- فحص حياتنا بانتظام: يجب علينا أن نسأل أنفسنا بانتظام عما إذا كانت أعمالنا تتوافق مع إيماننا. هل نعيش حياة بر؟
- السعي إلى علاقة شخصية مع الله: يجب علينا أن نقضي وقتًا في الصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والاجتماع مع المؤمنين الآخرين.
- التوبة عن خطايانا: يجب علينا أن نعترف بخطايانا ونسعى إلى التغيير، ونطلب من الله أن يغفر لنا ويطهرنا.
- القيام بأعمال صالحة: يجب علينا أن نخدم الآخرين، ونساعد المحتاجين، ونعمل على نشر محبة الله في العالم.
- طلب التوجيه الروحي: يجب علينا أن نطلب التوجيه من الله، ونبحث عن الحكمة من خلال الصلاة ودراسة الكتاب المقدس.
من خلال اتباع هذه الخطوات، يمكننا التأكد من أننا نسير في الطريق الصحيح، وأننا نعيش حياة ترضي الله.
أمثلة على “فاعلي الإثم”
من المهم أن نفهم من هم “فاعلو الإثم” الذين يتحدث عنهم يسوع في متى 7:23. لا يقصد يسوع هنا الأشخاص الذين يرتكبون أخطاء عرضية، بل أولئك الذين يعيشون حياة مستمرة من العصيان والشر. تشمل الأمثلة:
- المرابون: الأشخاص الذين يستغلون الآخرين ماليًا.
- الكذابون: الأشخاص الذين يتعمدون الكذب والخداع.
- الزناة: الأشخاص الذين يرتكبون الزنا.
- السارقون: الأشخاص الذين يسرقون ممتلكات الآخرين.
- المبغضون: الأشخاص الذين يحملون الكراهية في قلوبهم.
هذه مجرد أمثلة، والقائمة أوسع من ذلك. الفكرة الأساسية هي أن “فاعلي الإثم” هم الذين يرفضون طاعة الله ويعيشون حياة تتعارض مع وصاياه.
التمييز بين الأعمال الصالحة والرياء
من الضروري التمييز بين الأعمال الصالحة الحقيقية والرياء. قد يقوم البعض بأعمال جيدة بهدف الحصول على الثناء من الآخرين، أو لإرضاء أنفسهم، أو لإخفاء فسادهم الداخلي. هذا هو الرياء، وهو مرفوض من قبل الله. الأعمال الصالحة الحقيقية تنبع من محبة الله، ورغبة صادقة في طاعته، والاهتمام الحقيقي بالآخرين.
تشمل علامات الأعمال الصالحة الحقيقية:
- التواضع: عدم التباهي بالأعمال الصالحة.
- الإخلاص: القيام بالأعمال الصالحة بدافع المحبة لله والآخرين.
- المثابرة: الاستمرار في القيام بالأعمال الصالحة حتى في الأوقات الصعبة.
- السرية: عدم السعي إلى الحصول على الثناء أو التقدير من الآخرين.
يجب أن نركز على القيام بأعمال صالحة تنبع من القلب، وليس من الرغبة في الظهور بمظهر جيد.
العلاقة بين الإيمان والأعمال
الإيمان والأعمال متلازمان. الإيمان الحقيقي يؤدي إلى أعمال صالحة، والأعمال الصالحة دليل على الإيمان الحقيقي. لا يمكن للمرء أن يدعي الإيمان بيسوع دون أن تتجلى أعماله الصالحة في حياته. هذا ما يعنيه يسوع عندما قال: “هكذا فليضئ نوركم قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السموات” (متى 5:16).
الإيمان هو الأساس، والأعمال هي النتيجة. الإيمان هو الذي يخلصنا، ولكن الأعمال هي التي تثبت إيماننا وتجعله حيًا.
تحديات فهم متى 7:23
قد يواجه البعض صعوبة في فهم متى 7:23 بسبب:
- التركيز على الذات: قد يركز البعض على أنفسهم أكثر من اللازم، ويشعرون بالقلق بشأن خلاصهم بدلاً من التركيز على محبة الله وخدمة الآخرين.
- الاعتقاد الخاطئ عن الخلاص: قد يعتقد البعض أن مجرد الإيمان يكفي للخلاص، دون الحاجة إلى تغيير سلوكهم.
- تفسير الكتاب المقدس بشكل انتقائي: قد يختار البعض آيات معينة من الكتاب المقدس تدعم معتقداتهم، ويتجاهلون الآيات الأخرى التي تتعارض معها.
- الخوف من الدينونة: قد يشعر البعض بالخوف من الدينونة، مما يجعلهم يرفضون سماع الحقائق الصعبة.
لتجنب هذه التحديات، يجب علينا أن نتعامل مع الكتاب المقدس بتواضع، وأن نسعى إلى فهم المعنى الحقيقي للآيات، وأن نطلب التوجيه من الله. يجب علينا أيضًا أن نكون منفتحين على النقد الذاتي، وأن نكون على استعداد لتغيير معتقداتنا وسلوكنا إذا لزم الأمر.
الرجاء والنعمة
على الرغم من أن متى 7:23 تبدو وكأنها رسالة تحذيرية قاسية، إلا أنها يجب أن تُفهم في سياق الرجاء والنعمة. يقدم يسوع نعمة مجانية للخلاص لكل من يؤمن به. يدعو يسوع الجميع إلى التوبة والرجوع إليه، ويوفر لهم فرصة جديدة للبدء. لا ينبغي أن تدفعنا هذه الآية إلى اليأس، بل إلى السعي إلى الله بصدق، والعيش حياة ترضيه.
خاتمة
متى 7:23 هي آية ذات أهمية كبيرة، وهي جزء من عظة يسوع على الجبل. تحذر الآية من الاعتماد على مجرد الادعاء بالإيمان، وتؤكد على أهمية العلاقة الشخصية مع الله، وعلى ضرورة أن يعيش المؤمن حياة تتوافق مع تعاليمه. تدعو الآية إلى الفحص الذاتي، والتوبة، والنمو الروحي. يجب أن نأخذ هذه الآية على محمل الجد، وأن نسعى إلى فهمها بشكل صحيح، وأن نعيش حياة ترضي الله. يجب أن نتذكر أن الله محبة، وأنه يقدم نعمة مجانية للخلاص لكل من يؤمن به.
المراجع
- Bible Gateway – Matthew 7:23
- Encyclopaedia Britannica – Sermon on the Mount
- Got Questions – Matthew 7:23
- The Gospel Coalition – What Does it Mean to Not Know Someone?
“`