السياق العام
لكي نفهم متى 10:23 بشكل كامل، من الضروري أن نضعها في سياقها الأوسع. في الأصحاح العاشر من إنجيل متى، نجد يسوع يجمع تلاميذه الاثني عشر ويمنحهم السلطة لإعلان ملكوت الله والشفاء من الأمراض. يوجههم يسوع بشأن كيفية القيام بذلك، ويقدم لهم تعليمات حول ما يجب عليهم فعله، وكيف يجب عليهم التصرف، وما يمكن أن يتوقعوه.
يبدأ هذا الإصحاح بإعطاء يسوع السلطة لتلاميذه على الأرواح النجسة وشفاء المرضى. ثم يذكر أسماء الرسل الاثني عشر. بعد ذلك، يعطي يسوع تعليمات محددة بشأن ما يجب عليهم فعله، وكيف يجب عليهم السفر، وماذا يجب عليهم أن يأخذوه معهم. يحذرهم من المعارضة التي سيواجهونها، ويحثهم على أن يكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام. يؤكد لهم على أن الله سيعتني بهم.
تحليل الآية
الآية متى 10:23 تقول: “وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ، فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُتِمُّونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ”.
لفهم هذه الآية بشكل أفضل، دعنا نحلل كلماتها الرئيسية:
- “وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ”: تشير هذه العبارة إلى أن التلاميذ سيتعرضون للاضطهاد والرفض. لن يتم استقبالهم دائمًا بشكل جيد، وسيتعين عليهم مواجهة المعارضة من أولئك الذين لا يقبلون رسالتهم.
- “فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى”: هذا التوجيه يخبر التلاميذ بالابتعاد عن الأماكن التي يواجهون فيها الاضطهاد. هذا لا يعني التخلي عن رسالتهم، بل يعني البحث عن مكان آخر حيث يمكنهم الاستمرار في التبشير بأمان أكبر.
- “فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُتِمُّونَ مُدُنَ إِسْرَائِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ ابْنُ الإِنْسَانِ”: هذا الجزء من الآية هو الأكثر إثارة للجدل. يشير “ابن الإنسان” إلى يسوع نفسه. يرى البعض أن هذا يعني أن التلاميذ لن يكملوا مهمتهم بالكامل قبل عودة يسوع. يرى آخرون أنه يشير إلى أن التلاميذ سينشرون رسالة يسوع في جميع أنحاء إسرائيل قبل أن يتمكن يسوع من تأسيس ملكوته بالكامل.
التفسيرات المحتملة
هناك العديد من التفسيرات المحتملة لمتى 10:23:
- التحذير من الاضطهاد: يمكن تفسير الآية على أنها تحذير للتلاميذ بشأن الاضطهاد الذي سيواجهونه. يجب أن يكونوا مستعدين للرفض، ويجب أن يعرفوا متى ينسحبون ويذهبون إلى مكان آخر.
- الحث على المثابرة: في الوقت نفسه، يمكن تفسير الآية على أنها حث على المثابرة. على الرغم من الاضطهاد، يجب على التلاميذ الاستمرار في نشر رسالة يسوع حتى يكتمل عملهم.
- الإشارة إلى العودة الثانية ليسوع: قد تشير الآية إلى عودة يسوع الثانية. قد تعني أن التلاميذ لن يكملوا مهمتهم بالكامل حتى يعود يسوع.
- التأكيد على أهمية التبشير في إسرائيل: يمكن تفسير الآية على أنها تؤكد على أهمية التبشير في إسرائيل. يجب على التلاميذ أن يركزوا جهودهم على نشر رسالة يسوع في جميع أنحاء إسرائيل.
الأهمية اللاهوتية
تحمل متى 10:23 أهمية لاهوتية كبيرة. إنها تسلط الضوء على:
- واقع الاضطهاد: تعترف الآية بواقع الاضطهاد الذي سيواجهه المؤمنون. هذا ليس وعدًا بالحياة السهلة، بل هو تحذير من أن الإيمان سيواجه معارضة.
- أهمية الحكمة: تشجع الآية على الحكمة. يجب على المؤمنين أن يعرفوا متى ينسحبون ومتى يواصلون الكرازة.
- أهمية المثابرة: تحث الآية على المثابرة. على الرغم من الاضطهاد، يجب على المؤمنين الاستمرار في نشر رسالة الإنجيل.
- طبيعة ملكوت الله: تلمح الآية إلى طبيعة ملكوت الله. لا يمكن تحقيق ملكوت الله بالكامل إلا مع عودة يسوع.
التطبيق العملي
بالنسبة للمؤمنين اليوم، تقدم متى 10:23 عدة دروس عملية:
- الاستعداد للاضطهاد: يجب أن يكون المؤمنون مستعدين للاضطهاد. يجب ألا يتفاجأوا عندما يواجهون معارضة لإيمانهم.
- الحكمة في التعامل مع المعارضة: يجب أن يستخدم المؤمنون الحكمة في التعامل مع المعارضة. يجب أن يعرفوا متى يدافعون عن إيمانهم، ومتى ينسحبون ويتجنبون المواجهة غير الضرورية.
- المثابرة في نشر الإنجيل: يجب على المؤمنين المثابرة في نشر رسالة الإنجيل. على الرغم من الاضطهاد، يجب عليهم الاستمرار في مشاركة إيمانهم مع الآخرين.
- التركيز على ملكوت الله: يجب على المؤمنين أن يركزوا على ملكوت الله. يجب عليهم أن يتذكروا أن عملهم في نشر الإنجيل هو جزء من خطة الله الأكبر.
الفرق مع الآيات الأخرى المشابهة
من المهم أن نلاحظ أوجه التشابه والاختلاف بين متى 10:23 وآيات أخرى في الأناجيل تتناول نفس الموضوعات:
- مرقس 6:10-11: في إنجيل مرقس، نجد تعليمات مماثلة للتلاميذ. يقول يسوع: “وَحَيْثُ مَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَأَقِيمُوا فِيهِ حَتَّى تَخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. وَأَيُّ مَكَانٍ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ”. هذه الآيات تؤكد على فكرة الرفض، وتوفر إرشادات حول كيفية التصرف في حالة الرفض.
- لوقا 9:5: في إنجيل لوقا، نجد تعليمات مشابهة: “وَمَنْ لَمْ يَقْبَلْكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ، وَانْفُضُوا الْغُبَارَ أَيْضًا مِنْ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ”. يركز لوقا أيضًا على أهمية الابتعاد عن أولئك الذين يرفضون الرسالة.
في حين أن هذه الآيات تتقاسم موضوعات مماثلة، إلا أن متى 10:23 فريدة من نوعها في إشارتها إلى مسألة إتمام المدن في إسرائيل وعودة ابن الإنسان. هذا يعطي الآية بعدًا مسكونيًا ويوفر منظورًا مختلفًا حول عمل التلاميذ.
الآثار التاريخية والثقافية
تركت متى 10:23 آثارًا تاريخية وثقافية كبيرة:
- التأثير على المبشرين: ألهمت الآية المبشرين على مر العصور. لقد شجعتهم على الاستمرار في نشر الإنجيل على الرغم من الاضطهاد، وتذكيرهم بأهمية العمل في المناطق التي قد تكون غير مضيافة.
- إلهام المسيحيين في أوقات الشدة: قدمت الآية عزاءً وتشجيعًا للمسيحيين الذين تعرضوا للاضطهاد. لقد ذكرتهم بأنهم ليسوا وحدهم، وأن الله معهم.
- تشكيل اللاهوت المسيحي: ساهمت الآية في تشكيل اللاهوت المسيحي. لقد أدت إلى نقاشات حول طبيعة ملكوت الله، وعودة يسوع، ودور المؤمنين في نشر الإنجيل.
الخلفية اللغوية
لفهم متى 10:23 بشكل أفضل، من المفيد أن ننظر إلى النص الأصلي باللغة اليونانية:
“Ὅταν δὲ διώκωσιν ὑμᾶς ἐν τῇ πόλει ταύτῃ, φεύγετε εἰς τὴν ἑτέραν· ἀμὴν γὰρ λέγω ὑμῖν, οὐ μὴ τελέσητε τὰς πόλεις τοῦ Ἰσραὴλ ἕως ἔλθῃ ὁ υἱὸς τοῦ ἀνθρώπου.”
دعنا نحلل بعض الكلمات الرئيسية:
- διώκωσιν (diōkōsin): تعني “يطاردون” أو “يضطهدون”.
- φεύγετε (pheugete): تعني “اهربوا”.
- τελέσητε (telesēte): تعني “تكملون” أو “تنهون”.
- Ἰσραὴλ (Israēl): تعني “إسرائيل”.
- υἱὸς τοῦ ἀνθρώπου (huios tou anthrōpou): تعني “ابن الإنسان”.
فهم هذه الكلمات يساعدنا على تقدير المعنى الدقيق للآية.
أوجه التشابه مع الكتاب المقدس
يمكن ربط متى 10:23 بآيات أخرى في الكتاب المقدس تتناول موضوعات مماثلة، مثل الاضطهاد والمثابرة والرجاء:
- يوحنا 15:20: “اُذْكُرُوا الْكَلِمَةَ الَّتِي قُلْتُهَا لَكُمْ: لَيْسَ عَبْدٌ أَعْظَمَ مِنْ سَيِّدِهِ. فَإِنْ كَانُوا قَدِ اضْطَهَدُونِي، فَسَيَضْطَهِدُونَكُمْ أَيْضًا”. تؤكد هذه الآية على أن الاضطهاد هو جزء طبيعي من الحياة المسيحية.
- رومية 8:35-39: “مَنْ يَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟” توفر هذه الآيات تأكيدًا على أن محبة الله لا تنفصل عنا بغض النظر عن الظروف.
- عبرانيين 12:1-3: “لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُرَافِقْ بِالصَّبْرِ الْكُرْزَ الَّذِي أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ”. تحث هذه الآيات على المثابرة في الإيمان، مع التركيز على يسوع كمثال لنا.
الخاتمة
متى 10:23 هي آية ذات أهمية كبيرة في الكتاب المقدس. إنها تحذر من الاضطهاد، وتشجع على الحكمة والمثابرة، وتشير إلى طبيعة ملكوت الله. تقدم هذه الآية دروسًا عملية للمؤمنين اليوم، وتشجعهم على الاستعداد للاضطهاد، والتحلي بالحكمة في التعامل مع المعارضة، والمثابرة في نشر رسالة الإنجيل، والتركيز على ملكوت الله. من خلال فهم السياق والتحليل اللغوي، يمكننا أن نقدر بشكل كامل أهمية هذه الآية في الإطار التاريخي والثقافي والديني.