السياق التاريخي واللغوي
لكي نفهم متى 28:20 بشكل كامل، من الضروري أن ننظر أولاً إلى سياقه التاريخي واللغوي. كتب إنجيل متى في الأصل باللغة اليونانية في وقت ما بين عامي 70 و 90 ميلادي. يعتقد العلماء أن متى كتب لإثبات أن يسوع هو المسيح المنتظر في العهد القديم، ويهدف إلى تزويد القارئ اليهودي بالبراهين اللازمة لإيمانهم به. الإصحاح 28 هو ذروة الإنجيل، حيث يصف القيامة وظهور يسوع لتلاميذه.
تبدأ الآية 16 من الإصحاح 28 بوصف لقاء التلاميذ في الجليل، حيث أمرهم يسوع بالذهاب إلى هناك لمقابلته. ثم يتبع ذلك “الوصية العظمى” في الآيات 18-20، والتي تتضمن الأمر بالتبشير والعماد وتعليم الأمم. الآية 20 هي خاتمة هذه الوصية، وتتضمن وعدًا من يسوع بالحضور الدائم مع المؤمنين.
في اللغة اليونانية، الآية 20 تقرأ: “διδάσκοντες αὐτοὺς τηρεῖν πάντα ὅσα ἐνετειλάμην ὑμῖν: καὶ ἰδοὺ ἐγὼ μεθ’ ὑμῶν εἰμι πάσας τὰς ἡμέρας ἕως τῆς συντελείας τοῦ αἰῶνος.” يمكن ترجمة هذا إلى العربية على النحو التالي: “وعلّموا (أي علموا) جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر”. لاحظ أن الفعل “داسكونتاس” (διδάσκοντες) في صيغة الأمر الفعال، مما يدل على أن هذا أمر إلزامي.
الأهمية اللاهوتية
متى 28:20 له أهمية لاهوتية كبيرة لأنه يشتمل على عدد من المفاهيم الأساسية للعقيدة المسيحية. تشمل هذه المفاهيم:
- الوصية العظمى: هذه الآية هي جزء لا يتجزأ من “الوصية العظمى” التي أعطاها يسوع لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء. تشتمل الوصية على ثلاثة أوامر رئيسية: الذهاب إلى جميع الأمم، وتعليمهم، وتعميدهم. هذه الأوامر تبرز عالمية رسالة الإنجيل.
- التبشير والتلمذة: تأمر الآية التلاميذ بالتبشير وتعليم الأمم. وهذا يدل على أن الإيمان المسيحي ليس مجرد مسألة شخصية، بل هو دعوة للمشاركة في مهمة يسوع في العالم. التبشير يتعلق بإعلان الأخبار السارة عن يسوع المسيح، بينما التلمذة تتعلق بتعليم المؤمنين كيفية اتباع تعاليم يسوع والعيش وفقًا لها.
- العماد: يمثل العماد رمزًا للدخول في المجتمع المسيحي، والتطهير من الخطايا، والموت مع المسيح والقيامة معه. هو عمل علني يشهد على الإيمان بيسوع.
- الثالوث الأقدس: يذكر يسوع في الآية صراحة الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس. هذا يؤكد على طبيعة الله كإله واحد في ثلاثة أقانيم متمايزة.
- وعد الحضور الدائم: ربما تكون هذه هي أهم نقطة في الآية. يختتم يسوع الوصية بوعد بأنه سيكون مع تلاميذه “كل الأيام إلى انقضاء الدهر”. هذا الوعد يمنح المؤمنين الثقة والشجاعة في مهمتهم. إنه يضمن أن يسوع لن يترك أبدًا كنيسته، وأنه سيكون حاضرًا معهم في كل الظروف.
بشكل عام، تقدم الآية فهمًا شاملاً للإيمان المسيحي. إنها توفر الأساس للتبشير، والعماد، والتلمذة، وتؤكد على أهمية الثالوث الأقدس. علاوة على ذلك، يؤكد وعد يسوع بالحضور الدائم على أن المؤمنين ليسوا وحدهم في هذه المهمة.
تأثيره على العقيدة والممارسة المسيحية
كان لمتى 28:20 تأثير كبير على العقيدة والممارسة المسيحية عبر التاريخ. لقد شكلت هذه الآية الأساس اللاهوتي للعديد من الممارسات المسيحية، مثل:
- التبشير والتبشير: أدت الوصية بالذهاب وتعليم الأمم إلى انتشار المسيحية في جميع أنحاء العالم. قام المبشرون المسيحيون بنشر الإنجيل في جميع القارات، وترجمة الكتاب المقدس إلى مئات اللغات، وإنشاء كنائس جديدة في كل مكان.
- العماد: أصبح العماد طقسًا أساسيًا في المسيحية، مما يدل على الانضمام إلى المجتمع المسيحي. يتم ممارسة العماد في كنائس مختلفة بطرق مختلفة، ولكن الأساس اللاهوتي يظل كما هو موصوف في متى 28:19.
- التلمذة: تعطي الآية الأولوية لتدريب المؤمنين وتعليمهم. في تاريخ الكنيسة، هذا أدى إلى تطوير المؤسسات التعليمية، والبرامج الدراسية، وبرامج التدريب الروحي، بهدف تعزيز نمو المؤمنين في الإيمان والمعرفة.
- العبادة الجماعية: يرى المسيحيون أن وعد يسوع بالحضور معهم “كل الأيام” يمثل أساس أهمية العبادة الجماعية. يلتقي المؤمنون بانتظام للصلاة، وقراءة الكتاب المقدس، والاحتفال بالعشاء الرباني (التناول)، والاستماع إلى التعليم، وتعزيز التفاعل المجتمعي.
- الثقة في الله: إن وعد يسوع بالحضور الدائم يمنح المؤمنين الثقة في مواجهة الشدائد والظروف الصعبة. يذكرهم بأنهم ليسوا وحدهم، وأن يسوع سيعمل معهم في جميع جوانب حياتهم.
إجمالاً، متى 28:20 ليس مجرد آية؛ إنه أساس العقيدة والممارسة المسيحية. لقد شكلت هذه الآية الطريقة التي يفهم بها المسيحيون إيمانهم، وكيف يعيشون حياتهم، وكيف يشاركون في مهمة الله في العالم. إنها دعوة إلى الإيمان والتبشير والتلمذة والعيش في شركة مع يسوع المسيح.
الخلافات والتفسيرات المختلفة
على الرغم من الأهمية الكبيرة لمتى 28:20، إلا أنه كان هناك بعض الخلافات حول كيفية تفسير بعض جوانب هذه الآية. على سبيل المثال، ناقش بعض العلماء ما إذا كانت صيغة العماد “باسم الآب والابن والروح القدس” تعني وجوب استخدام هذه الكلمات الدقيقة في طقس العماد. يرى آخرون أن هذه الصيغة مجرد إشارة إلى الثالوث الأقدس، وأن الصيغ الأخرى مقبولة أيضًا.
هناك أيضًا بعض الجدل حول معنى “كل الأيام إلى انقضاء الدهر”. بينما يرى معظم المسيحيين أن هذا الوعد يضمن الحضور الدائم ليسوع مع الكنيسة، يرى البعض الآخر أنه يشير إلى نهاية الزمان. بغض النظر عن كيفية تفسيرها، فإن هذا الوعد يظل مصدرًا للتشجيع والإلهام للمؤمنين.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن رؤية الاختلافات في كيفية تنفيذ الوصية العظمى. بعض الكنائس تركز بشكل كبير على التبشير المباشر، في حين أن البعض الآخر يركز على الخدمة الاجتماعية والأعمال الخيرية. غالبًا ما يعكس هذا التنوع في المنهجيات وجهات النظر اللاهوتية والثقافية المختلفة.
خاتمة
متى 28:20 هو نص محوري في الكتاب المقدس، حيث يقدم جوهر العقيدة والممارسة المسيحية. إنه يختتم إنجيل متى بوعد يسوع بالحضور الدائم مع المؤمنين، مع تأكيد على أهمية التبشير والعماد والتلمذة. لقد شكل هذا النص طريقة فهم المسيحيين لإيمانهم، وكيف يعيشون حياتهم، وكيف يشاركون في مهمة الله في العالم. من خلال دراسة متعمقة لهذا النص، يمكن للمؤمنين تعميق فهمهم للإيمان المسيحي والالتزام بتنفيذ الوصية العظمى.