نشأته وبداياته
وُلد بيتر ريدمان في مدينة ليغنيتس (Legnica) في سيليزيا (حالياً في بولندا). لا يُعرف الكثير عن نشأته المبكرة، لكنه انضم إلى الحركة الأنابابتستية في شبابه، وهي حركة دعت إلى إعادة المعمودية للمؤمنين البالغين، مما أدى إلى صراعها مع الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانتية. تعرض الأنابابتستيون للاضطهاد الشديد، مما دفعهم إلى التنقل والعيش في الخفاء للحفاظ على معتقداتهم.
انضم ريدمان إلى مجموعة من الأنابابتستيين الذين تبنوا أفكاراً أكثر سلامية، رفضوا العنف ودافعوا عن العيش المشترك. برز ريدمان كقائد ذي قدرات تنظيمية وقيادية، مما أهله لقيادة الجماعات الهوتريية فيما بعد. في هذه الفترة، تأثر ريدمان بأفكار يعقوب هاتر، الذي يعتبر المؤسس الأول للهوتريين، والذي دعا إلى مجتمع مسيحي يعتمد على الملكية المشتركة والعيش المشترك.
قيادته للهوتريين
بعد وفاة يعقوب هاتر، تولى بيتر ريدمان قيادة الهوتريين، وواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على وحدة الجماعة في ظل الاضطهاد المستمر. قام ريدمان بتنظيم الهوتريين بشكل فعال، ووضع أسس تنظيمية قوية للجماعة. تميزت قيادته بالتركيز على التعليم والوحدة والالتزام بالقيم المسيحية.
أحد أهم إنجازات ريدمان هو تأليفه لكتاب “اعتراف الإيمان” (Rechenschaft unserer Religion, Lehr und Glaubens) في عام 1540. يعتبر هذا الكتاب الأساس اللاهوتي للهوتريين، حيث يوضح معتقداتهم ومبادئهم الأساسية. يشمل الكتاب شرحاً تفصيلياً للعقيدة المسيحية، بما في ذلك مفهوم الثالوث، وطبيعة المسيح، والخلاص، والمعمودية، والعشاء الرباني. كما يتضمن الكتاب أيضاً توجيهات حول الحياة اليومية للمؤمنين، مثل أهمية الصلاة، والعمل، ومحبة الآخرين.
ساهم “اعتراف الإيمان” في توحيد الجماعة وتعزيز هويتها، وأصبح بمثابة دستور روحي للهوتريين. ترجم الكتاب إلى لغات متعددة، مما ساهم في انتشار أفكار الهوتريين وتأثيرها. بالإضافة إلى ذلك، قام ريدمان بتنظيم الهوتريين في مجتمعات مستقلة، حيث عاشوا حياة مشتركة، وتقاسموا الموارد، وعملوا معاً لتحقيق الاكتفاء الذاتي.
معتقدات الهوتريين
تتميز معتقدات الهوتريين بالعديد من الخصائص التي تميزهم عن غيرهم من الجماعات المسيحية. من أبرز هذه المعتقدات:
- الملكية المشتركة: يعتبر الهوتريون أن الملكية المشتركة هي جوهر الحياة المسيحية، حيث يتقاسمون جميع الموارد والأموال والمنتجات. يهدف هذا المبدأ إلى القضاء على الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، وتعزيز الوحدة والمحبة بين الأعضاء.
- العيش المشترك: يعيش الهوتريون في مجتمعات منفصلة، حيث يعيشون ويعملون معاً في تناغم. يشارك الجميع في جميع جوانب الحياة اليومية، من العمل إلى الطعام والترفيه.
- المعمودية بالإيمان: يؤمن الهوتريون بالمعمودية بالإيمان، والتي تُمنح للبالغين الذين يعبرون عن إيمانهم بالمسيح. يرفضون معمودية الأطفال، لأنهم يعتقدون أن الإيمان يجب أن يكون اختياراً شخصياً.
- السلام واللاعنف: يلتزم الهوتريون بمبدأ السلام واللاعنف، ويرفضون المشاركة في الحروب والنزاعات العسكرية. يعتقدون أن المسيحيين مدعوون إلى محبة أعدائهم، والسعي إلى السلام في جميع الظروف.
- التبشير: على الرغم من تمسكهم بمعتقداتهم، لم يمارس الهوتريون التبشير على نطاق واسع. يفضلون أن يعيشوا شهادة حياتهم المسيحية، وأن يكونوا مثالاً للآخرين.
بالإضافة إلى هذه المعتقدات، يولي الهوتريون أهمية كبيرة للتعليم والتدريب الروحي. يقيمون المدارس للأطفال، ويشجعون على دراسة الكتاب المقدس والتأمل فيه. كما يمارسون الطقوس الدينية بانتظام، مثل الصلاة، وتناول العشاء الرباني.
تأثير ريدمان على الهوتريين
كان لبيتر ريدمان تأثير كبير على تطور الهوتريين. من خلال قيادته الحكيمة، و”اعتراف الإيمان” الذي وضعه، ساهم في توحيد الجماعة، وتعزيز هويتها، وتوسيع نطاق انتشارها. لعب ريدمان دوراً حاسماً في الحفاظ على الهوية الهوتريية في وجه الاضطهاد المستمر. بفضل قيادته، تمكن الهوتريون من البقاء على قيد الحياة، والازدهار في مختلف أنحاء العالم.
في فترة قيادته، ازدهرت المجتمعات الهوتريية، وتوسعت في مناطق مختلفة من أوروبا. تميزت هذه المجتمعات بالوحدة، والتعاون، والعمل الجاد. طور الهوتريون مهاراتهم في الزراعة والحرف اليدوية، وحققوا الاكتفاء الذاتي. كما اشتهروا بإنتاجهم للمنتجات عالية الجودة، والتي كانت مطلوبة في الأسواق المحلية.
لم تقتصر جهود ريدمان على الجانب الديني والروحي، بل امتدت أيضاً إلى الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. قام بتطوير نظام تعليمي شامل لأطفال الهوتريين، وركز على القيم المسيحية والعمل الجاد. كما شجع على التعاون بين الأعضاء، وتوزيع الموارد بشكل عادل. ساهمت هذه الجهود في بناء مجتمعات متماسكة ومزدهرة.
بعد وفاة ريدمان، استمر الهوتريون في السير على خطاه، والحفاظ على معتقداتهم وتقاليدهم. واصلوا العيش في مجتمعات مشتركة، والالتزام بمبادئ السلام واللاعنف. على الرغم من التحديات والصعوبات التي واجهتهم، تمكن الهوتريون من البقاء على قيد الحياة والازدهار، وأصبحوا جزءاً مهماً من المشهد الديني والثقافي في العالم.
ميراثه
يُعتبر بيتر ريدمان شخصية محورية في تاريخ الهوتريين. يذكر اسمه في كل احتفال أو حفل. ترك ريدمان إرثاً غنياً، يتمثل في “اعتراف الإيمان” الذي لا يزال يُقرأ ويدرس في مجتمعات الهوتريين في جميع أنحاء العالم. كما ترك إرثاً من القيادة الحكيمة، والالتزام بالقيم المسيحية، والعمل من أجل الوحدة والسلام. يعتبر نموذجاً يحتذى به للهوتريين، وملهماً لهم في حياتهم اليومية.
يظهر تأثير ريدمان أيضاً في الحفاظ على الهوية الهوتريية في وجه التحديات. على الرغم من الاضطهاد والتهجير الذي تعرضوا له على مر القرون، استمر الهوتريون في الحفاظ على معتقداتهم وتقاليدهم. يرجع هذا إلى حد كبير إلى القيادة القوية التي وفرها ريدمان، وقدرته على توحيد الجماعة. بفضل جهوده، أصبح الهوتريون مثالاً للصمود والإيمان في وجه الشدائد.
يشمل إرث ريدمان أيضاً المجتمعات الهوتريية المزدهرة التي لا تزال موجودة في جميع أنحاء العالم. تعكس هذه المجتمعات قيمه ومبادئه، وتجسد رؤيته لمجتمع مسيحي يعتمد على الملكية المشتركة والعيش المشترك. تواصل المجتمعات الهوتريية الحفاظ على هذا الإرث، والعيش وفقاً لمبادئ الإيمان والمحبة والسلام.
خاتمة
بيتر ريدمان شخصية مهمة في تاريخ الهوتريين، فقد كان قائداً بارزاً، ومؤلفاً ذا تأثير، ومدافعاً عن الإيمان. من خلال قيادته، وتنظيمه، وكتاباته، ساهم في توحيد الهوتريين، وتعزيز هويتهم، وتوسيع نطاق انتشارهم. ترك ريدمان إرثاً غنياً، يتمثل في “اعتراف الإيمان”، والمجتمعات الهوتريية المزدهرة في جميع أنحاء العالم. يُنظر إليه كشخصية محورية في تاريخ الهوتريين، ونموذجاً يحتذى به في الإيمان والقيادة.
المراجع
- Global Anabaptist Mennonite Encyclopedia Online – Peter Riedemann
- Wikipedia – Peter Riedemann
- The Hutterites – Our Beliefs
- Encyclopaedia Britannica – Peter Riedemann
“`