الخلفية التاريخية والاجتماعية
شكلت الستينيات فترة اضطرابات اجتماعية وسياسية واسعة النطاق في جميع أنحاء العالم. شهدت هذه الفترة حركات الحقوق المدنية، وحركات مناهضة الحرب، والثورة الجنسية، والوعي المتزايد بقضايا الاستعمار وما بعد الاستعمار. أثرت هذه التطورات بشكل كبير على علم الإنسان، حيث بدأ الباحثون في التشكيك في الافتراضات الغربية، والاعتراف بأهمية الأصوات غير الغربية، والتحقيق في آثار عدم المساواة الاجتماعية والسياسية على الثقافة والمجتمع.
الأحداث البارزة
شهدت الستينيات تأسيس العديد من المؤسسات والمجتمعات العلمية التي لعبت دورًا حاسمًا في تطوير علم الإنسان. من بين هذه الأحداث:
- تأسيس الجمعية الأنثروبولوجية الجنوبية (Southern Anthropological Society): تأسست هذه الجمعية في عام 1960، وهدفت إلى تعزيز البحث والتبادل العلمي في مجال علم الإنسان في جنوب الولايات المتحدة.
الاتجاهات النظرية والمنهجية
شهدت الستينيات ظهور العديد من الاتجاهات النظرية والمنهجية التي أثرت على علم الإنسان. من بين هذه الاتجاهات:
- البنيوية (Structuralism): برزت البنيوية، التي أسسها كلود ليفي ستروس، كمنهج نظري مهم في علم الإنسان. ركزت البنيوية على تحليل الهياكل الأساسية التي تقوم عليها الثقافة، مثل أنظمة القرابة، والأساطير، والطقوس.
- علم الإنسان الرمزي (Symbolic Anthropology): ركز هذا النهج على دراسة الرموز والمعاني في الثقافة. طور علماء الأنثروبولوجيا الرمزية أدوات تحليلية لفهم كيف يعطي الناس معنى لأفعالهم ومعتقداتهم من خلال الرموز.
- الأنثروبولوجيا النقدية (Critical Anthropology): بدأ بعض علماء الأنثروبولوجيا في تبني نهج نقدي، حيث قاموا بتفكيك علاقات القوة، والتحيز، والاختلافات الثقافية. كان الهدف هو فهم كيفية تأثير هذه العوامل على إنتاج المعرفة الأنثروبولوجية، والتحقق من صحة الافتراضات الغربية.
- الأنثروبولوجيا النسوية (Feminist Anthropology): بدأت الأنثروبولوجيا النسوية في الظهور كفرع فرعي، مع التركيز على دراسة دور المرأة في الثقافة والمجتمع. قامت الباحثات النسويات بتحليل التمييز بين الجنسين، وعدم المساواة، والتحدي لافتراضات الذكور المهيمنة في علم الإنسان.
الممارسات الميدانية
شهدت الستينيات تحولات في الممارسات الميدانية في علم الإنسان. بدأ علماء الأنثروبولوجيا في التركيز على:
- التفاعل مع المجتمعات المحلية: أصبح إشراك المجتمعات المحلية في عملية البحث أمرًا ضروريًا. سعى علماء الأنثروبولوجيا إلى التعاون مع أفراد المجتمع، والاستماع إلى وجهات نظرهم، وتقديم نتائج البحث بطرق يمكنهم فهمها والاستفادة منها.
- دراسة التغير الثقافي: مع تسارع التغير الاجتماعي والتكنولوجي في جميع أنحاء العالم، بدأ علماء الأنثروبولوجيا في دراسة كيفية تأثير هذه التغيرات على الثقافة والمجتمع.
- التركيز على القضايا العالمية: بدأ علماء الأنثروبولوجيا في معالجة القضايا العالمية مثل الفقر، وعدم المساواة، والصحة، والبيئة، وتأثيرها على المجتمعات المحلية.
المنشورات البارزة
شهدت الستينيات نشر العديد من الأعمال الهامة التي شكلت تطور علم الإنسان. من بين هذه المنشورات:
- “العامل في C” (Worker In The C): نشرت في عام 1960.
- “الفكر البدائي” (The Savage Mind) لكلود ليفي ستروس (1962): قدم هذا الكتاب نظرية البنيوية في علم الإنسان، واستكشف كيف يفكر الناس في الثقافات المختلفة.
- “الكتاب المقدس والإثنوغرافيا” (The Bible and the Anthropologist) من تأليف إدوارد إيفانز بريتشارد (1962): قدم الكتاب نظرة ثاقبة حول العلاقة بين الدين وعلم الإنسان.
- “المرأة في الثقافة والمجتمع” (Woman, Culture, and Society) (1974): مجموعة مقالات حررتها ميشيل روزالدو و لويز لامفير، تعتبر من الأعمال التأسيسية للأنثروبولوجيا النسوية. على الرغم من أن الكتاب نشر في السبعينيات، إلا أن الكثير من الأعمال كانت خلال الستينيات.
التأثير على التخصصات الأخرى
أثرت التطورات في علم الإنسان في الستينيات على العديد من التخصصات الأخرى، بما في ذلك علم الاجتماع، وعلم النفس، والعلوم السياسية، والدراسات الثقافية. ساهمت المفاهيم والأدوات التي طورها علماء الأنثروبولوجيا في فهم أعمق للتنوع الثقافي، وعلاقات القوة، والتغير الاجتماعي. على سبيل المثال، استخدم علماء الاجتماع البنيوية لدراسة أنظمة القرابة والهياكل الاجتماعية، في حين استخدم علماء النفس أساليب علم الإنسان لفهم السلوك البشري في سياقات ثقافية مختلفة.
التحديات والجدالات
شهد علم الإنسان في الستينيات العديد من التحديات والجدالات. من بين هذه التحديات:
- الاستعمار وما بعد الاستعمار: واجه علماء الأنثروبولوجيا انتقادات متزايدة حول دورهم في الاستعمار. اتُهموا بالمشاركة في مشاريع استعمارية من خلال دراسة الثقافات غير الغربية، وبالتالي دعم الهيمنة الغربية.
- التحيز والعرقية: أثيرت قضايا التحيز والعرقية في علم الإنسان. تم التشكيك في الافتراضات الغربية حول التفوق العرقي، وتم الاعتراف بأهمية الأصوات غير الغربية.
- العلاقة بين النظرية والممارسة: نشأت جدالات حول العلاقة بين النظرية والممارسة في علم الإنسان. سعى بعض العلماء إلى تطوير نظريات عالمية، بينما ركز آخرون على فهم الثقافات الفردية.
أهمية علم الإنسان في الستينيات
كان لعلم الإنسان في الستينيات تأثير عميق على فهمنا للعالم. ساهمت الدراسات الأنثروبولوجية في:
- تعزيز التفاهم الثقافي: ساعدت الدراسات الأنثروبولوجية في تعزيز التفاهم والاحترام بين الثقافات المختلفة.
- معالجة قضايا العدالة الاجتماعية: استخدم علماء الأنثروبولوجيا أبحاثهم لمعالجة قضايا العدالة الاجتماعية، مثل الفقر، وعدم المساواة، والعنصرية.
- المساهمة في السياسات العامة: ساهمت أبحاث علم الإنسان في تشكيل السياسات العامة في مجالات مثل الصحة، والتعليم، والتنمية.
تراث الستينيات في علم الإنسان
لا يزال تراث الستينيات في علم الإنسان مؤثرًا حتى اليوم. لا تزال الاتجاهات النظرية والمنهجية التي ظهرت في تلك الفترة، مثل البنيوية، وعلم الإنسان الرمزي، والأنثروبولوجيا النقدية، والأنثروبولوجيا النسوية، تشكل جزءًا أساسيًا من علم الإنسان الحديث. بالإضافة إلى ذلك، يستمر علماء الأنثروبولوجيا في معالجة القضايا التي أثيرت في الستينيات، مثل الاستعمار، والتحيز، والعلاقة بين النظرية والممارسة، في بحوثهم وممارساتهم.
مقارنة مع الفترات الأخرى
لتوضيح أهمية الستينيات، يمكننا مقارنتها بفترات أخرى في تاريخ علم الإنسان. في أوائل القرن العشرين، هيمن علم الإنسان التطوري، الذي ركز على وضع الثقافات في تسلسل هرمي من “البدائية” إلى “المتحضرة”. وفي فترة ما بين الحربين العالميتين، ازدهر علم الإنسان الوظيفي، الذي ركز على كيفية عمل الثقافات لتلبية احتياجات الأفراد. في الستينيات، تحول التركيز إلى فهم التنوع الثقافي، وتشكيل المجتمعات، وعلاقات القوة، والتغير الاجتماعي. كان هذا التحول بمثابة نقطة تحول في علم الإنسان، مما أدى إلى ظهور مناهج أكثر انتقادية وإدماجًا.
أمثلة على دراسات ميدانية مؤثرة
في الستينيات، قام علماء الأنثروبولوجيا بإجراء العديد من الدراسات الميدانية المؤثرة التي أثرت في فهمنا للثقافة والمجتمع. من بين هذه الدراسات:
- “مراسم الموت” لـ لويزا جيس (1962): ركزت هذه الدراسة على طقوس الدفن في مجتمع في غينيا الجديدة، وقدمت رؤى قيمة حول كيفية تعامل الناس مع الموت والحياة الآخرة.
- “أطفال سانتا كروز” لـ أوسكار لويس (1966): قدمت هذه الدراسة صورًا حية لحياة الفقراء في مدينة مكسيكو سيتي، و سلطت الضوء على تحديات الفقر وعدم المساواة.
تطور علم الإنسان في أواخر الستينيات
شهدت أواخر الستينيات بداية تحول نحو مناهج أكثر نقدية في علم الإنسان. بدأ العلماء في التشكيك في الافتراضات الغربية، والتحقيق في آثار علاقات القوة على إنتاج المعرفة. كما شهدت الفترة ظهور الأنثروبولوجيا النسوية، التي ركزت على دراسة دور المرأة في الثقافة والمجتمع.
خاتمة
كانت الستينيات فترة تحول في علم الإنسان، حيث شهدت ظهور مناهج نظرية جديدة، وتغيرات في الممارسات الميدانية، وتوسعًا في نطاق التخصص. أدت هذه التطورات إلى فهم أعمق للتنوع الثقافي، وعلاقات القوة، والتغير الاجتماعي. لا يزال تراث الستينيات مؤثرًا حتى اليوم، حيث يستمر علماء الأنثروبولوجيا في معالجة القضايا التي أثيرت في تلك الفترة.