نشأته وبداياته
ولد فاسكو دي كويروغا في منطقة فيلافيردي دي كيرويغا في إسبانيا، وتلقى تعليمه في القانون. بعد حصوله على درجة الدكتوراه في القانون، عمل كقاضٍ في إسبانيا. في عام 1530، عُين في محكمة بلدية أفيلا، حيث اكتسب سمعة طيبة بفضل نزاهته وعدالته. هذه الخبرة المبكرة شكلت أساسًا لعمله المستقبلي في العالم الجديد.
الوصول إلى إسبانيا الجديدة
في عام 1530، عُين كويروغا كعضو في المحكمة الثانية في إسبانيا الجديدة، بناءً على طلب من الأسقف خوان دي زوماراجا، بهدف تطبيق العدالة وتخفيف معاناة السكان الأصليين. وصل إلى إسبانيا الجديدة عام 1535. أدرك كويروغا على الفور الظروف المزرية التي يعيش فيها السكان الأصليون، والظلم الذي تعرضوا له من قبل المستعمرين. لقد صدمته ممارسات الاستغلال والعبودية التي كانت منتشرة، وقرر تكريس حياته للدفاع عن حقوقهم.
بناء مجتمعات أورو
أحد أبرز إنجازات كويروغا كان تأسيسه لمجتمعات “أورو” (Pueblos-Hospitales)، والتي تعني حرفيًا “قرى المستشفيات”. كانت هذه المجتمعات عبارة عن مدن نموذجية صُممت لتوفير الرعاية الصحية والتعليم والعمل اللائق للسكان الأصليين. تم تصميم كل قرية لتلبية الاحتياجات الأساسية لسكانها، مع التركيز على الاستدامة والاعتماد على الذات.
تميزت هذه المجتمعات بعدة خصائص رئيسية:
- الرعاية الصحية: تأسست مستشفيات متكاملة لتقديم الرعاية الصحية للسكان الأصليين، بما في ذلك العلاج الطبي والرعاية التمريضية.
- التعليم: أُنشئت مدارس لتعليم الأطفال والشباب القراءة والكتابة والمهارات الحرفية.
- العمل: تم توفير فرص عمل في مجالات الزراعة والحرف اليدوية والتجارة، بهدف تمكين السكان الأصليين اقتصاديًا.
- التنظيم الاجتماعي: اتبعت المجتمعات نظامًا اجتماعيًا يعتمد على القيم المسيحية، مع التركيز على التعاون والمساواة.
من أبرز أمثلة مجتمعات أورو مدينة باتزكوارو في ولاية ميتشواكان الحالية، والتي أصبحت مركزًا ثقافيًا واقتصاديًا مهمًا. عمل كويروغا على تطوير البنية التحتية في هذه المدن، بما في ذلك بناء الكنائس والمباني العامة والمساحات الخضراء. لقد كان يؤمن بأهمية توفير بيئة صحية وجميلة للسكان، لتعزيز رفاهيتهم وتقدمهم.
الدفاع عن السكان الأصليين
لم يقتصر عمل كويروغا على بناء المجتمعات النموذجية، بل كان أيضًا مدافعًا شرسًا عن حقوق السكان الأصليين. دافع عنهم في مواجهة الظلم والاستغلال، وندد بممارسات المستعمرين القاسية. كتب رسائل وتقارير إلى الحكومة الإسبانية، يطالب فيها بوضع حد للعبودية والعمل القسري. لقد كان صوته مسموعًا في المحاكم الملكية، وحاول التأثير على السياسات الاستعمارية لتحسين أوضاع السكان الأصليين.
أحد أبرز إسهاماته في هذا المجال كان رفضه لنظام “الإنكوميندا” (encomienda)، وهو نظام استعماري منح بموجبه المستعمرون الحق في استخدام العمالة الأصلية واستغلال الموارد الطبيعية. رأى كويروغا هذا النظام على أنه شكل من أشكال الاستعباد، وعارض بشدة استخدامه في إسبانيا الجديدة.
أسقفيته في ميتشواكان
في عام 1538، عُين كويروغا كأول أسقف لميتشواكان، وهي منطقة في وسط غرب المكسيك. بصفته أسقفًا، استخدم منصبه لتعزيز عمله الإنساني والدفاع عن حقوق السكان الأصليين. قام بجولات مكثفة في جميع أنحاء أبرشيته، لزيارة مجتمعات أورو والاطلاع على أحوال الناس. استغل نفوذه الديني والسياسي للتأثير على القرارات التي تؤثر على حياة السكان الأصليين.
عمل على نشر الديانة المسيحية، لكنه فعل ذلك بطريقة تراعي الثقافة والتقاليد الأصلية. كان يؤمن بأهمية احترام التنوع الثقافي، ودمج القيم المسيحية مع القيم الثقافية المحلية. شجع على ترجمة النصوص الدينية إلى اللغات الأصلية، لتمكين السكان الأصليين من فهم وتعلم الدين بسهولة.
إرثه وتأثيره
ترك فاسكو دي كويروغا إرثًا دائمًا في المكسيك. مجتمعات أورو التي أسسها لا تزال قائمة حتى اليوم، وتشهد على رؤيته الثاقبة والتزامه بالإنسانية. ألهم عمله عددًا كبيرًا من القادة والناشطين الاجتماعيين، الذين استمروا في الدفاع عن حقوق السكان الأصليين والعمل من أجل العدالة الاجتماعية.
اعتبره الكثيرون “أبو الهنود” (Padre de los Indios)، تقديرًا لجهوده في حماية ورعاية السكان الأصليين. يعتبر مثالًا يحتذى به في الإنسانية والتفاني في خدمة الآخرين. استمرت أفكاره ومبادئه في التأثير على السياسات الاجتماعية والثقافية في المكسيك، ولا يزال يُحتفى به كشخصية تاريخية مهمة.
الاستقبال والانتقادات
على الرغم من الاحترام الواسع الذي حظي به كويروغا، فقد تعرض لبعض الانتقادات. انتقد البعض رؤيته المثالية للمجتمع، واعتبروا أن محاولاته لفرض القيم المسيحية على السكان الأصليين كانت بمثابة شكل من أشكال الاستعمار الثقافي. ومع ذلك، فإن غالبية المؤرخين يتفقون على أن إسهاماته الإنسانية تفوق أخطاءه، وأنه كان شخصية استثنائية في تاريخ إسبانيا الجديدة.
كانت رؤية كويروغا لمجتمعات أورو تقوم على فكرة المجتمع الفاضل، المستوحى من أفكار الفيلسوف توماس مور. حاول تطبيق هذه الأفكار على أرض الواقع، من خلال إنشاء مجتمعات منظمة توفر الرعاية الاجتماعية والتعليم والعمل. على الرغم من التحديات التي واجهها، فقد نجح في تحقيق تغيير كبير في حياة السكان الأصليين، وألهم الآخرين للعمل من أجل عالم أكثر عدالة.
خاتمة
كان فاسكو دي كويروغا شخصية استثنائية تركت بصمة واضحة في تاريخ إسبانيا الجديدة. بصفته قاضيًا ورجل دين وإنسانيًا، كرس حياته للدفاع عن حقوق السكان الأصليين وبناء مجتمعات نموذجية. مجتمعات أورو التي أسسها لا تزال شاهدة على رؤيته الثاقبة والتزامه بالعدالة الاجتماعية. على الرغم من بعض الانتقادات، فإن إرثه كـ “أبو الهنود” يظل حيًا، ويشكل مصدر إلهام للأجيال القادمة.
المراجع
- Vasco de Quiroga – Britannica
- Vasco de Quiroga – Wikipedia
- Vasco de Quiroga – New World Encyclopedia
- Vasco de Quiroga: El Padre de los Indios – México Desconocido
“`